
هل حدث وشعرت يومًا أن جهازك الذكي يسبقك إلى معرفة رغباتك قبل أن تُعلنها صراحة؟؟؟؟
تفكر في اقتناء هاتف جديد فتجد عروض التقسيط تتراءى لك قبل أن تبحث، أو تهمس لصديق عن وجهة سفر فتمتلئ شاشاتك بعروض طيران وفنادق لهذه الوجهة تحديدًا. في البداية نُرجع الأمر إلى مجرد مصادفة، ثم تتكرر المصادفة مرات ومرات حتى ندرك أننا أمام ظاهرة منهجية وليست عشوائية على الإطلاق....ما نشهده هو الوجه الأكثر وضوحًا لما يُعرف بالبيانات الضخمة (Big Data)، تلك المنظومة الضخمة والمعقدة التي باتت تشكل العمود الفقري للاقتصاد الرقمي المعاصر. في كل لحظة، يتم تسجيل ملايين التفاعلات الرقمية: عمليات البحث، النقرات، الإعجابات، المواقع الجغرافية، مدة البقاء على الصفحة، وحتى النبرة العاطفية في التعليقات. هذه البيانات لا تُجمع فحسب، بل تُعالج في الزمن الحقيقي بواسطة خوارزميات ذكاء اصطناعي قادرة على رسم صورة دقيقة ومتعددة الأبعاد لسلوك الفرد، بل وتوقع قراراته المستقبلية بدقة قد تتجاوز أحيانًا وعي الشخص نفسه.
في هذا المقال، سنتناول بصورة منهجية كيف تُولد هذه القوة الهائلة من الحجم والسرعة والتنوع، وكيف تتحول كميات البيانات الخام إلى معرفة قابلة للتنبؤ، وما الآثار العميقة لهذه الظاهرة على حياتنا اليومية، وعلى قطاعات التعليم والبحث العلمي والمكتبات، وأخيرًا كيف يمكننا كأفراد ومؤسسات أن نتحول من مجرد مصادر للبيانات إلى أصحاب سيادة عليها.
ماهية البيانات الضخمة
لتبسيط الأمر، البيانات الضخمة ليست مجرد "كمية" كبيرة من المعلومات. إنها منظومة كاملة من المعلومات تتسم بالتعقيد والسرعة والتنوع الشديد، لدرجة لا يمكن معالجتها بأدوات تحليل البيانات التقليدية التي نعرفها. فمنذ مطلع الألفية الثالثة، بدأ المختصون يصفون هذه الظاهرة بثلاثة محاور رئيسة تُعرف بـ القواعد الثلاث (3Vs):تُشكّل معًا تعريفًا لا يزال قائمًا حتى اليوم، وإن تطوّر لاحقًا إلى خمس وسبع قواعد، إلا أن الأصل يبقى هو الأكثر وضوحًا وشمولية:
أولًا، الحجم Volume
وهنا لم نعد نتحدث عن ميغابايت أو غيغابايت، بل عن بيتابايت (ألف تيرابايت) وإكسابايت (مليون تيرابايت). في كل دقيقة، يُحمّل المستخدمون حول العالم أكثر من 500 ساعة فيديو على يوتيوب، ويرسلون 200 مليون بريد إلكتروني، ويُجرون 5 ملايين عملية بحث على غوغل. هذا الحجم الهائل لم يعد بالإمكان تخزينه أو معالجته بالأدوات التقليدية.
ثانيًا، االبيانات لم تعد تُجمع على دفعات يومية أو شهرية، بل تتدفق في الزمن الحقيقي. عندما تُحرّك إصبعك على شاشة هاتفك، يتم تسجيل الإحداثيات والسرعة والضغط والمدة في أجزاء من الثانية، ثم تُرسل وتُحلّل فورًا لتظهر لك الإعلان المناسب قبل أن تُغلق التطبيق.
ثالثًا، التنوع Variety
لم تعد البيانات نصوصًا وأرقامًا فقط. أصبحت صورًا وفيديوهات وتسجيلات صوتية وبيانات استشعار وحركة ودرجة حرارة وحتى نبض القلب من الساعات الذكية. كل نوع من هذه الأشكال يحمل معلومات لا يمكن للنوع الآخر أن يحملها، وعندما تُدمج معًا تُنتج صورة ثلاثية الأبعاد للشخص وللحظته الزمنية.
هذه الخصائص الثلاث مجتمعة خلقت تحديًا تقنيًا وعلميًا جديدًا: كيف نُحوّل هذا السيل الجارف من المعلومات الخام إلى معرفة قابلة للفهم والاستخدام؟ الإجابة جاءت من تقاطع الذكاء الاصطناعي مع الهندسة الموزّعة والحوسبة السحابية، فأصبح بالإمكان ليس فقط تخزين هذه الكميات، بل اكتشاف الأنماط المخفية داخلها، ومن ثَمّ توقّع ما سيحدث قبل أن يحدث.
بمعنى آخر، البيانات الضخمة ليست مجرد أرشيف رقمي أكبر، بل هي تحول معرفي: للمرة الأولى في التاريخ البشري، أصبح لدينا القدرة على رصد السلوك البشري على مستوى الكوكب في اللحظة نفسها التي يحدث فيها، ثم تحويله إلى قرارات آنية تؤثر على حياة الملايين.
كيف "تفهم" الشركات سلوكك وتتنبأ بقراراتك؟
الشركات لا تكتفي بجمع البيانات، بل تحولها – عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتقدمة – إلى ملفات شخصية دقيقة ومتجددة باستمرار، تحتوي على ميولك الحقيقية، تقديرات وضعك المالي، وأهم من ذلك: نواياك المستقبلية قبل أن تتبلور تمامًا في وعيك. وفيما يلي أبرز الآليات التي تُمكّن هذا الفهم العميق والتنبؤ المذهل:
أولاً: تحليل سلوك التصفح والنية الخفية
تُرصد كل تفاعلاتك الدقيقة على الإنترنت لاستخلاص مؤشرات نية الشراء أو التغيير. فالوقت الطويل الذي تقضيه في مقارنة منتجين، أو عودتك المتكررة إلى صفحة معينة دون إتمام العملية، أو حتى تباطؤ حركة التمرير عند عرض سعر معين، كلها تُترجم إلى ارتفاع في "درجة النية"، مما يُحفّز النظام تلقائيًا على إرسال خصم فوري أو عرض محدود المدة قبل أن تقرر الشراء فعليًا. كذلك يُطبَّق تحليل المشاعر العاطفية (Sentiment Analysis) على تعليقاتك ومنشوراتك، فيُحدد ما إذا كنت تشعر بالإحباط أو الحماس أو اللامبالاة تجاه علامة تجارية، ليتم بعدها صياغة الإعلانات القادمة بلغة ونبرة تتناسب بدقة مع حالتك النفسية اللحظية.
ثانيًا: التنبؤ بالأحداث الحياتية الكبرى
تُعد هذه القدرة التحليلية على التنبؤ من أكثر جوانب البيانات الضخمة إثارة وقلقًا في آن واحد. إنها القوة الهائلة التي تمكّن الشركات والأنظمة من رؤية المستقبل القريب، من خلال تحليل أنماط السلوك المتدفقة وغير المرئية للمستخدمين،
فعندما تبدأ فجأة في البحث عن دورات تدريبية متخصصة في مجال جديد، أو تحدّث سيرتك الذاتية بشكل متكرر على منصات مهنية مثل لينكد إن، أو تغيّر أنماط مشترياتك بشكل ملحوظ نحو منتجات صحية أو غذائية معينة، تبدأ النماذج التنبؤية المتقدمة في العمل. هذه النماذج لا تنظر إلى فعل واحد بمعزل عن غيره، بل تقوم بربط مئات أو آلاف نقاط البيانات الصغيرة معًا.
كيف يتم الاستدلال؟
البحث عن وظيفة جديدة: يمكن للنماذج استنتاج احتمالية بحثك عن وظيفة جديدة أو تفكيرك في تغيير مسار حياتك المهنية بنسبة عالية، وذلك ليس فقط من خلال زياراتك لمواقع التوظيف، ولكن أيضًا من زيادة نشاطك الليلي على الإنترنت، أو تغيير تفاعلاتك على المجموعات المهنية، أو حتى تنزيلك لمقالات حول "فن التفاوض على الراتب".
التوقعات الشخصية والحساسة: كما في الحالة الشهيرة لسلسلة Target الأمريكية، التي اكتشفت حمل إحدى الزبونات المراهقات قبل أن تعلم عائلتها. اعتمدت النماذج على تتبع تغييرات دقيقة وغير واعية في سلوك الشراء، مثل التحول إلى أنواع معينة من المستحضرات غير المعطرة، أو الزيادة في شراء مكملات غذائية معينة، أو شراء كميات أكبر من القطن والأشياء الماصة غير المعتادة.
التخطيط للانتقال: يمكن التنبؤ بانتقالك إلى مدينة أخرى أو حي جديد من خلال تغييرات طفيفة مثل البحث المتكرر عن خدمات نقل الأثاث، أو الاطلاع على قوائم العقارات في منطقة معينة، أو حتى البحث عن مدارس جديدة أو أطباء في مدينة أخرى.
هذه القدرة على تحديد النية والتوقع انطلاقًا من تغييرات طفيفة وغير واضحة في السلوك اليومي تمنح الشركات ميزة تسويقية وتنافسية غير مسبوقة، لكنها في الوقت نفسه تثير مخاوف كبيرة حول الخصوصية والتنبوء القسري؛ إذ يتم استنتاج جوانب حساسة من حياتنا الخاصة دون علمنا أو موافقتنا الصريحة.
ثالثًا: دمج العالم الرقمي مع الواقع المادي
بفضل بيانات تحديد الموقع الجغرافي والاستشعار، تتحول حياتك اليومية إلى خريطة بيانية دقيقة. زياراتك المتكررة لمتاجر فاخرة أو مطاعم راقية، أوقات دخولك وخروجك من صالات الرياضة أو المقاهي، مساراتك اليومية بين المنزل والعمل، كلها تُدمج مع بيانات الإنفاق ونوع الجهاز لتصنيفك ضمن شريحة اجتماعية-اقتصادية محددة، مما يؤثر ليس فقط على نوع الإعلانات التي تُعرض عليك، بل أحيانًا على الأسعار المخصصة لك شخصيًا، ويُمكّن الشركات من فهم نمط حياتك بشكل شامل ومستمر.
بهذه الآليات المتكاملة، تتحول بياناتك من مجرد سجل لما فعلته إلى نص تنبؤي يكتب مستقبلك قبل أن تعيشه، ويبقى السؤال الجوهري: هل نحن مستعدون للسيطرة على هذه القوة، أم سنظل مجرد صفحات في كتاب تُقرأ وتُحلل دون إذن صريح منا؟
البيانات الضخمة: سلاح ذو حدَّين، وكيف نُمسك نحن بالمقبض
ما رأيناه حتى الآن قد يوحي بأننا أمام قوة لا تُقاوم تُدار بالكامل من قِبل الشركات العملاقة، لكن الحقيقة أكثر توازنًا وأعمق أملًا: البيانات الضخمة ليست شرًّا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، بل هي أداة، ومصيرها يتحدد بمن يملك المعرفة والإرادة لتوجيهها.
أولاً، الوجه المُضيء : الإسهامات المجتمعية والمعرفية في التعليم العالي والبحث العلمي
تُحدِث البيانات الضخمة ثورة حقيقية. الجامعات تستخدم اليوم تحليلات التعلم (Learning Analytics) لتتبع مسار كل طالب في الزمن الحقيقي، فتكتشف مبكرًا الطلاب المعرضين لخطر الرسوب أو الاحتراق الأكاديمي، وتُقدّم لهم دعمًا مخصصًا قبل فوات الأوان. وفي مجال البحث العلمي، تتيح معالجة مجموعات بيانات هائلة في الطب والمناخ وعلم الاجتماع اكتشاف أنماط وعلاقات لم يكن بالإمكان رؤيتها من قبل، مما يدفع عجلة الابتكار إلى الأمام بسرعة غير مسبوقة. وفي مواجهة الأزمات، وقد أثبتت بيانات الموقع الجغرافي وحركة التنقل قدرتها على مساعدة الحكومات في الاستجابة السريعة والفعّالة للأوبئة والكوارث الطبيعية، كما رأينا بوضوح خلال جائحة كوفيد-19.
ثانيًا، الوجه المُقلق :الخصوصية، التحيز، وفقدان السيادة على الذات
مع هذه القوة تأتي مخاطر وجودية. من يملك هذه البيانات فعليًا؟ وكيف نضمن ألا تُستخدم ضد مصالح الأفراد، كتحديد أسعار تأمين أعلى أو شروط ائتمان أقسى بناءً على سلوكيات مكتشفة؟ الشفافية شبه معدومة، والموافقات التي نُقرّها غالبًا تنازلات كاملة عن حقوقنا. الأخطر هو التحيز الخوارزمي (Algorithmic Bias): الخوارزميات تتعلم من بيانات الماضي المنحازة تاريخيًا – عنصريًا أو طبقيًا أو جندريًا – فتُعيد إنتاج التمييز وتُكرّسه في قرارات قد تبدو للبعض موضوعية، مثل رفض قروض، استبعاد سير ذاتية، تصنيف أمني، أو حتى تحديد فرص العمل، مما يعمّق الفجوات الاجتماعية بدلًا من تقليصها.
ثالثًا،المخرج الحقيقي: محو الأمية البيانية كشرط للحرية الرقمية
المعركة ليست تقنية فقط، بل هي معركة وعي ومسؤولية. السيادة على بياناتنا لن تُمنح لنا، بل ستُؤخذ بالمعرفة والمطالبة. محو الأمية البيانية (Data Literacy) هو المهارة الحاسمة في العصر الرقمي، ويعني ببساطة أن يمتلك كل فرد القدرة على:
-
معرفة أي بيانات تُجمع عنه ومن أي مصدر
-
فهم كيف تُستخدم هذه البيانات لاتخاذ قرارات تؤثر في حياته
-
تقييم ونقد المصادر والخوارزميات التي تُقدَّم كحقائق مطلقة
-
اتخاذ خطوات عملية لاستعادة قدر من التحكم في هويته الرقمية
في النهاية، البيانات الضخمة هي "بترول العصر الرقمي" ، مادة خام هائلة القيمة، لكنها لا تتحول إلى ثروة معرفية ومجتمعية إلا بأدوات التكرير والتوزيع العادل. والمكتبات والمؤسسات الأكاديمية، بتاريخها الطويل في حفظ المعرفة وتنظيمها وإتاحتها للجميع، مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتقود هذا التحول.
وفي هذا المضمار ، تبرز نسيج للتقنية ، كونها الشريك الرقمي الأول للمكتبات والجامعات العربية في رحلة تحويل البيانات الضخمة إلى معرفة أخلاقية ومستدامة. من خلال منصة مداد السحابية وأدوات التحليلات الأكاديمية المتقدمة، وبرامج أكاديمية نسيج التدريبية، ومبادراتها الرائدة في حوكمة البيانات والامتثال لأنظمة حماية البيانات، تقدّم نسيج نموذجًا عمليًا يُثبت أن القوة التقنية قادرة على التعايش الكامل مع الخصوصية والشفافية والمعايير الأكاديمية العالمية.
بهذا تصبح المكتبات والجامعات العربية صانعةً لسياسات بياناتها ومالكةً لأدواتها، وتتحول نسيج إلى الجسر الحقيقي الذي ينقلنا من عصر جمع البيانات إلى عصر امتلاكها والاستفادة منها بوعي ومسؤولية كاملة.