مع انطلاقة العديد من الرؤى الاستراتيجية الوطنية لكثير من الدول في عالمنا العربي؛ رؤية السعودية 2030، رؤية مصر 2030، رؤية الإمارات، 2030، رؤية قطر 2030، البحرين 2030، رؤية الكويت 2035، رؤية عمان 2040، وما صاحب تدشين كل رؤية من هذه الرؤى من زخم اقتصادي يدعم مبادئ وأهداف التنمية المستدامة التي أشارت إليها منظمة الأمم المتحدة، تشكل لدى الأجهزة الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص بتلك الدول، وعي مشترك بضرورة العمل الجاد وتضافر الجهود المؤسسية لتحقيق أجندة أهداف التنمية المستدامةSDGs التي تم تدشينها بالفعل في 2015 ومنذ ذلك التاريخ تصدر تقارير لمتابعة وتحديث ما يتم من إتجار على مستوى كل هدف من الأهداف ال 17 عشر والمشار إليها في صدر هذا المقال، كان آخرها تقرير سنوي صدر مع مطلع هذا العام 2023 . .
هذا، وقد دعم هذا التوجه، عقد “قمة المعرفة 2019” تحت شعار "المعرفة لتحقيق الاستدامة Knowledge: The path to sustainable development" لمناقشة الخطط الاستراتيجية والمنهجيات وخرائط الطريق لتحقيق التنمية المستدامة حتى 2030، من خلال الاستثمار في البشر وبناء قدراتهم الإبداعية، والتحفيز على الابتكار ونشر ثقافة إدارة المعرفة على مستوى المؤسسات.
من هذه الزاوية قد يبدو أن التعاطي مع المعرفة وإدارتها منحى ذا بعد اقتصادي فقطـ أو أن هذا البعد يستأثر بالاهتمام المؤسسي ويحظى بالأولوية ضمن قائمة تركيز الدول صاحبة تلك الرؤى المشار إليها آنفًا، لكن واقع الأمر يشي بأن العمق الاجتماعي هو الرافد الأقدم الذي يغذي مفهوم المعرفة والباعث المحفز على إدارتها، ثم يأتي بعد ذلك الجانب الاقتصادي ليبرز القيمة المضافة والعوائد المتحققة نتيجة الإدارة الواعية للمعرفة، ومن هنا نجد أن السعي الحثيث من جانب مختلف الدول سواء النامية أو المتقدمة لبناء مجتمع المعرفة يعد طموحًا مشروعًا له ما يبرره، كما أن الحرص على الترقي في سلم نضج إدارة المعرفة صار هدفًا مستدامًا للمؤسسات سواء الحكومية أو غير الحكومية داخل تلك الدول، وهو الأمر الذي يتطلب بالضرورة مقياسًا موضوعيًا لتحديد مدى نضج كل مؤسسة من تلك المؤسسات في إدارة المعرفة، وهو ما سيتم تناوله في الأسطر التالية.
إدارة المعرفة لم تعد خيارًا بل ضرورة حتمية
مع بدايات ظهور مصطلح مجتمع المعرفة وما صاحبه من إرهاصات التفكير في طبيعة المعرفة والتحديات المرتبطة بالتعاطي مع فئتيها الرئيسيتين: الظاهرة Explicit والضمنية Tacit، كان مفهوم إدارة المعرفة يحتاج إلى مزيد من الإيضاح خاصة مع تشكل حاجات حقيقية لدى المؤسسات لإدارة ما تمتلكه من موجودات معرفية والعمل على إعادة استخدامها وتعظيم الفائدة منها، إلى جانب القفزات الكبيرة في تقنيات الاتصالات والمعلومات، وعلى الرغم من أن التعريف الكلاسيكي لإدارة المعرفة وهو "جعل المعرفة المناسبة متاحة بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب للشخص المناسب"، قد اتسم بكثير من البساطة ومن ثم سهولة التذكر، إلا أنه رغم بساطته تلك فقد أثار عددًا من التساؤلات، مثل: ما المقصود ابتداءً بالمعرفة المناسبة؟ وما طبيعة إتاحتها؟ وما الأشكال التي تتاح فيها هذه المعرفة؟ وكنه قنوات الإتاحة؟ ثم ماذا عن الوقت المناسب للإتاحة في ظل النسبية التي تصاحب "الوقت" كلما ذكر في سياق ما، فالمعرفة التي تناسب شخصًا أو مجتمعًا الآن قد لا تناسب شخصًا أو مجتمعًا آخر يشاركه نفس الزمان بل والمكان أيضًا، وكذلك المعرفة التي تناسب شخصًا أو مجتمعًا في فترة زمنية ما يمر بها، قد لا تناسبه في فترة زمنية سواء أكانت سابقة على تلك الفترة الآنية التي يعيشها أو لاحقة عليها.
ومع تعدد وتنوع التعريفات التي وضعت لإدارة المعرفة ما يزال التعريف الذي وضعه توماس دافنبورت Davenport Thomas والذي أشار فيه إلى أن إدارة المعرفة "هي عملية التقاط وتوزيع والاستخدام الفعال للمعرفة"[1]. هو الأساس الذي انطلق منه كثير من الكتاب والمنظرين من مشارب تخصصية عدة لوضع تعريفات إجرائية لإدارة المعرفة، ولعل أفضل هذه التعريفات من وجهة نظري وأكثرها شمولًا وتعبيرًا عن جوهر إدارة المعرفة تعريفان أحدهما يعرفها من حيث مكوناتها وهو ما ذكرته دي ستريكر De Stricker؛حيث أشارت إلى أن إدارة المعرفة هي“السياسات والممارسات والاتفاقيات والعادات المرتبطة باستكشاف وامتلاك أو التقاط واختزان المعرفة لإتاحتها في المستقبل والتعاطي معها وتشاركها بما ينعكس بالإيجاب على إجراءات العمل بالمؤسسة"[2]، والآخر يعرفها من حيث كونها عملية مستمرة وهو ما ورد في الدليل الاسترشادي لإدارة المعرفة في الحكومة الاتحادية بدولة الإمارات، هي "الإدارة المنظمة للأصول المعرفية في الجهة بهدف خلق قيمــة مضافة وتلبية الاحتياجات الاستراتيجية؛ وهي تشــمل كافة المبــادرات والعمليــات والنظم التي تعمل على إنتاج واكتساب المعرفة وتصنيفها وتخزينها ونشرها واستخدامها / إعادة استخدامها"[3]
والآن ونحن في مطلع عام 2023 لم تعد هناك حاجة لإبراز قيمة المعرفة وضرورة العمل على تفعيل المؤسسات على اختلافها مفهوم الإدارة الرشيدة للمعرفة، حيث صار من البديهي حرص كثير من دول العالم على تضمين المعرفة والتشجيع على إدارتها وحوكمتها في رؤاها السياسة والاقتصادية الوطنية سعيًا لتحقيق التنمية المستدامة، بل إن بعضًا من هذه الدول قد قام بإصدار قوانين بإنشاء مراكز لإدارة المعرفة بالمؤسسات كما هو الحال في السعودية والإمارات، سعيًا إلى تعزيز بناء مجتمع المعرفة بالدولة، وتحقيق كل مؤسسة الاستثمار الأمثل لرصيدها من المعارف، إضافة إلى جني عوائد مختلفة على المستوى التنظيمي، مثل: بلوغ الرشاقة المؤسسية Institutional Agility، نجاعة وفعالية اتخاذ القرار، زيادة القدرة التنافسية، سرعة حل المشكلات، زيادة مساحة الإبداع والابتكار، تصفير احتمالية فقد المعرفة المؤسسية في مقابل مضاعفة فرص تشاركها، وتعظيم الاستفادة من الأصول المعرفية المتوافرة بالمؤسسة والإبقاء Retention على الخبرات والمعارف التخصصية الحيوية التي يحملها الموظفون والخبراء في عقولهم حتى بعد مغادرتهم المؤسسة أو تقاعدهم، تحسبًا وتجنبًا لما يعرف بفقد المؤسسة لمعارفها knowledge Loss
هل إلى قياس نضج المؤسسة في إدارة المعرفة من سبيل؟ الإجابة نعم
من المعروف أن ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته، والمعرفة رغم طبيعتها الخاصة كمورد مائي الطبع لا ينفد بالأخذ والاغتراف منه، بل على العكس يزداد ويثرى، كما أنه المورد الذي بدونه لا يمكن استثمار أي من الموارد الأخرى: بترول، فحم، كهرباء، ...إلخ، تتطلب نمطًا وأسلوبًا خاصًا في القياس ومنهجية وأداة لجعل هذا القياس كميًا بما يمكن من الحكم بشكل موضوعي على نتائج التقييم قائم على الأدلة والبراهين Evidence- based، ومسترشد بمؤشرات أداء رئيسة KPI واضحة ومحددة، مما يمكن من تلمس عوائد تطبيق إدارة المعرفة المشار إليها آنفًا، وتحديد مواطن الضعف التي تحتاج لتحسين والفجوات المعرفية التي تتطلب رأبًا، ومن ثم وضع خطة استراتيجية ورسم خارطة طريق قابلة للتنفيذ لإدارة المعرفة بالمؤسسة.
في هذا الإطار وسعيًا لتحقيق القياس الفعال لإدارة المعرفة وضع أحد المراكز المبرزة، وهو المركز الأمريكي للإنتاجية والجودة (American Productivity & Quality Center- APQC)[4] والذي تربطه ب#أكاديمية_نسيج علاقة تعاون استراتيجي واتفاقية شراكة في التدريب والتطوير المؤسسي، أداة لقياس مستوى تضج المؤسسات في إدارة المعرفة. تعرف بــ أداة تقييم مقدرة المنظمة على إدارة المعرفة Knowledge Management Capability Assessment Tool (KM CAT)[5]، تقدم هذه الأداة منهجية واضحة ودقيقة لقياس وتقييم مقدرة ومدى كفاية المؤسسة في إدارة معارفها على امتداد مستويات نضج خمسة يوضحها الشكل رقم 1. وهي تغطي من خلال عدد من التساؤلات مختلف جوانب إدارة المعرفة لاستطلاع وضعيتها داخل المؤسسة؛ بداية من استراتيجيتها لإدارة المعرفة حال وجودها، مرورًا بالمخصصات المالية والموارد البشرية الموجهة لهذا الغرض، وحوكمة إدارة المعرفة، والسياسات والعمليات والإجراءات التي تتم وفقًا لها، وانتهاءً بالتقنيات المعتمد عليها، ومعايير ومؤشرات تقييم الأداء، وكل عنصر من هذه العناصر يتم إعطاؤه تقديرًا كميًا.
مستويات نضج إدارة المعرفة حسب أنموذج مركز APQC [6]
إن كل مستوى من مستويات النضج الخمسة هذه يرتبط بسمات وحالة إدارة المعرفة التي عليها المؤسسة والنتائج أو العائد المترتب عليها، وهي تتدرج ابتداء من المستوى الأول: مستوى البدء الذي يعد الأساس لعملية النضج، حيث تكون المؤسسة في حاجة لممارسات وإجراءات متسقة لتحديد وتشارك وتناقل وتطبيق ما تمتلكه من معارف، مما يؤثر بالإيجاب على تدفق سير العمل. يليه المستوى الثاني: مستوى التطوير، حيث ينصب تركيز المؤسسة على القيام بمراجعة أولية لاستراتيجية إدارة المعرفة بها، والتأكد من أنها تتماهى مع استراتيجية المؤسسة الأم، كما يتم أيضًا في هذا المستوى تحديد فرص التطوير المتاحة لتفعيل منحى تشارك وتناقل المعرفة، مع تقييمها وتوثيقها بشكل واضح ودقيق في ظل إطار منضبط من الحوكمة، ثم يأتي المستوى الثالث: مستوى المعايرة، حيث يتم التركيز على تحري المعايير في تطبيق إدارة المعرفة والعمليات والإجراءات المرتبطة بها وتحقيق التميز في الإشراف على منظومة إدارة المعرفة ككل، ووضع قياسات ومؤشرات أداء دقيقة ومحددة، مع التقاط الدروس المستفادة وتشاركها، يليه المستوى الرابع: مستوى التحسين، والذي تكتمل فيه البنية الأساسية لإدارة المعرفة بصورة معيارية، ويستتبعها توسعة نطاق طرح وتنفيذ مبادرات إدارة المعرفة على امتداد المؤسسة ككل، والعمل على وضع وتسويق استراتيجية متكاملة للطرق والإجراءات المعيارية التي تتبعها المؤسسة في إدارة المعرفة، مع السعي الحثيث إلى التحسين بشكل مستمر. وأخيرًا، يأتي المستوى الخامس: مستوى الابتكار، والذي يتميز بتوفير الدعم الكامل للتحسين المستمر لمنظومة إدارة المعرفة من قبل الإدارة العليا للمؤسسة مما يفتح الباب على مصراعيه للابتكار سواء على مستوى العمليات أو الإجراءت بما يضمن تفعيل التحسين المستمر Continuous improvement على كافة جوانب إدارة المعرفة بالمؤسسة.
وختامًا، يمكننا التأكيد على أن القياس الكمي لإدارة المعرفة لابد وأن يتم في ضوء البيئة الخارجية والثقافة التنظيمية السائدة في المؤسسة ومن ثم فمن المهم أن يسبق إجراءات القياس مسح شامل ودقيق لهذه البيئة باستخدام كل من التحليل العاملي للبيئة الخارجية PESTLE الذي يركز على العوامل السياسية، والاقتصادية ، والاجتماعية، والتقنية، والقانونية، والبيئية المؤثة، والتحليل الرباعي للبيئة الداخلية SWOC، الذي يركز على مظاهر القوة، ومواطن الضعف، ومناهل الفرص، ومصادر التحدي للمؤسسة، مما يمكن من بناء رؤية تأسيسية واضحة لمدى قدرة المؤسسة ونضجها في إدارة معارفها، تلك الرؤية مبنية على استخلاص واعٍ لنتائج التحليل البيئي، واستقراء وتأويل مدرك لطبيعة البيئة التي تعيش بين جنباتها المؤسسة وتسعى لخدمة أفرادها بمختلف فئاتهم وتنوع احتياجاتهم المعرفية، بما يضمن وضع خطة استراتيجية مستقبلية لإدارة المعرفة فعالة وقابلة للتنفيذ.
[1] Davenport, Thomas H. (1994), Saving IT's Soul: Human Centered Information management. Harvard Business Review, March-April, 72 (2)pp. 119-131. Duhon, Bryant (1998), It's All in our Heads. Inform, September, 12 (8).
[2] De Stricker, Ulla, ed. (2013) Knowledge Management Practice in Organizations: The View from Inside. Information Science Reference. Hershey, PA , 2013. 230 p,
[3] الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية (2017) الدليل الاسترشادي لإدارة المعرفة في الحكومة الاتحادية. أبو ظبي: الهيئة،
https://www.fahr.gov.ae/Portal/Userfiles/Assets/Documents/5e69ac2f.pdf
[4] المركز الأمريكي للإنتاجية والجودة American Productivity & Quality Center- APQC منظمة لا تهدف للربح تأسست عام 1977 ويعد من المؤسسات الرائدة في قياس الأداء ، وأفضل الممارسات ، وتحسين العمليات والأداء ، وإدارة المعرفة:
Helping Organizations Work Smarter, Faster, and with Greater Confidence | APQC
[5]https://www.apqc.org/what-we-do/benchmarking/assessment-survey/knowledge-management-capability-assessment-tool