هالني تعبير " إغلاق المكتبات حول العالم" بسبب جائحة فيروس كورونا، وتذكرت فيلم Fahrenheit 451 الذي يصور مجتمعا أحرقت فيه الكتب، واختفت من شوارعه وأروقته المكتبات، ودون الحديث بالتفصيل عن أحداث الفيلم لأن مشاهدته أكثر إمتاعاُ، فقد ارتأى مخرج الفيلم أن يكون الحل الدرامي لتلك المشكلة هو أن يصبح البشر هم الكتب بما يستطيع كل فرد الاحتفاظ به داخل عقله من معرفة وثقافة وأن تصبح البيوتات هي المكتبات حيث تضم بين جنباتها هؤلاء الأفراد أو لنقل الكتب التي تمشي على قدمين.
ومع استيعاب دلالة ما قالته رئيسة الإفلا وأمينها العام في البيان الصادر عنهما في 23 مارس بعنوان "كوفيد – 19 ومجتمع المكتبات العالمي"[1]، من تأثر المكتبات في كل بلدان العالم بتداعيات هذه الجائحة، مما اضطر كثير منها إلى إغلاق الخدمات مؤقتًا أو تقليلها إلى الحد الأدنى للمساهمة في الجهود المبذولة للحد من انتشار المرض.
.ومع التسليم بأن أي قرار يتخذ بشأن تقييد الخدمات أو إغلاق المكتبات هو قرار صعب ويجب اتخاذه بعد تقييم المخاطر النسبية والتبعات المترتبة عليه، فقد تفاوتت الاستجابات من بلد لآخر ما بين الإغلاق التام للمكتبات العامة والمكتبات الوطنية كما هو الحال في[2]: استراليا، وكندا والبرازيل، وفرنسا، وإيطاليا، وإغلاق جزئي في بعض الدول الأخرى مع اتخاذ كافة التدابير الاحترازية لضمان حماية صحة وسلامة كل من الموظفين والمستفيدين. كذلك اتخذت بعض الحكومات قرارات بإغلاق المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية في العديد من الدول يمكن رصدها في الإحصائيات الصادرة عن اليونسكو، مما أدى إلى تقييد حركية وفاعلية كثير من الخدمات التي تقدمها المكتبات المدرسية والجامعية ومكتبات البحوث.
نقول بأن تعبير إغلاق المكتبة ليس هو التعبير الدقيق أو على الأقل الأنسب، فقد تكون مباني المكتبات قد أغلقت، ولكن المكتبات ككيان ماتزال مفتوحة، خاصة مع إمكانية عمل موظفي المكتبات عن بعد من منازلهم اعتماداً على البنية التقنية المتطورة وتدفق سير العمل المتماسك والانسيابي في نفس الوقت، والدليل على ذلك ببساطه:
إمكانية الولوج إلى فهارس تلك المكتبات ومصادر معلوماتها الإلكترونية ==> فهل المكتبات أغلقت!!
إمكانية تقديم خدمات مرجعية افتراضية ورد على التساؤلات على مدار الساعة ==> فهل المكتبات أغلقت!!
إمكانية استماع واستمتاع الأطفال بحكي القصص عبر منصات التواصل الاجتماعي وموقع المكتبة الإلكتروني ==> فهل المكتبات أغلقت!!
إمكانية حضور الندوات والمؤتمرات وورش العمل عبر الإنترنت التي تقدمها المكتبة في شتى الموضوعات ==> فهل المكتبة أغلقت!!
علاوة على التواصل المستمر بين كثير من المكتبات وناشري وموردي الكتب وغيرها من مصادر المعلومات، لاختيار واستلام وإعداد المناسب منها لتلبية احتياجات مجتمع المستفيدين ==> فهل المكتبة أغلقت!!
بل إن بعض المكتبات بادرت الآن بتوفير خدمة توصيل الكتب إلى المنازل معقمة ومغلفة تلبية لرغبة مستفيديها، وإتاحة إمكانية ردها في أماكن مخصصة لذلك خارج مبنى المكتبة ==> فهل المكتبة أغلقت!!
وحتى من تعن له زيارة مبنى المكتبة واشتاق إلى التجول بين أروقتها وطاقت روحه ونفسه لاسترجاع عبق العيش بين جدران مكتبة الجامعة أو المكتبة العامة التي ألفها وارتبط بها، ففي استطاعته أن يبحر في جولة افتراضية داخل النموذج ثلاثي الأبعاد لمبنى المكتبة على موقعها الإلكتروني أو يدلف إلى كيانها المناظر في بيئة الحياة الثانية Second Life عبر معادله الرقمي. Avatar ==> فهل المكتبة أغلقت!!
وهناك العديد والعديد من الأمثلة الأخرى التي تدل على أن المكتبة ككيان ستظل مفتوحة أبوابها المعرفية حتى وإن أغلقت أبوابها الخرسانية. إن المكتبات لن تغلق – ما لم نرد نحن لها ذلك عمدا – متى بقيت المعرفة والثقافة في عقل وقلب البشر... فالمكتبات ليست مبنى وطاولات ومقاعد .. إن المكتبات هي معارفنا وعلومنا وإرثنا الثقافي الذي تضمه أبنية شيدت فقط لحفظ هذه المعارف والعلوم والتي لن تحرمنا بأي حال من متعة التواصل مع تلك المعارف والنهل من تلك العلوم والإفادة من ذلك الإرث وإثرائه..
إنا نحن المكتبات ..ومن ثم ستظل المكتبات مفتوحة متى ظللنا نحن البشر أحياء نطوق إلى المعرفة.
معلومات حول كاتب المقال:
الأستاذ الدكتور عبد الله حسين متولي
المشرف العام على أكاديمية نسيج وأستاذ المكتبات والمعلومات بجامعة القاهرة