طالعتنا مؤسسة "سبرنجر نيتشر" العالمية بإعلان ملفت للانتباه مفاده تحولها إلى النشر الإلكتروني مفتوح المصدر لإتاحة أكثر من 30 دورية علمية مرموقة بالمجان للقراء على الخط المباشر.
لأول وهلة، تبدو هذه خطوة إيجابية من قبل سبرنجر نيتشر، لكن من سيتحمل في الحقيقة تكاليف النشر في تلك الدوريات العلمية؟ وفقا لإعلان سبرنجر نيتشر، يتعين على الكتاب والمؤلفين دفع مبلغ 11,390 دولار أمريكي من أجل إتاحة أبحاثهم ومؤلفاتهم العلمية بالمجان للقراء.وهنا يطرح الدكتور جريجوري جوتشاونتس - Grigori Guitchounts – زميل ما بعد الدكتوراه لقسم علم الأعصاب بجامعة هارفارد – تساؤلا غاية في الأهمية: هل هذه الخطوة نقلة نوعية في عالم النشر الإلكتروني وإتاحة مصادر المعلومات المتخصصة، أما أنها استراتيجية تتبناها سبرنجر نيتشر لتعظيم مكاسبها؟ يرى الدكتور جريجوري أن هذه الخطوة تبدو في ظاهرها إيجابية حيث أن سبرنجر نيتشر توفر أغلب الدوريات العلمية مقابل اشتراك باهظ لا يقدر عليه سوى القراء أو المؤسسات التي تتوفر ليدها ملاءة مالية كبيرة؛ إذ تتيح سبرنجر نيتشر نوعين من الاشتراك للأفراد: أحدهما سنوي مقابل 199 دولار أمريكي، والثاني سداد 8.99 دولار أمريكي لكل مقالة يطلع عليها القارئ. أما على مستوى المؤسسات الأكاديمية، فقد يصل الاشتراك في مصادر المعلومات المتخصصة التي تقدمها سبرنجر نيتشر إلى 11مليون دولار أمريكي في السنة.
ثم يستطرق الدكتور جريجوري إلى الخلل الذي يعاني منه هيكل النشر العلمي، الأمر الذي أكده هذا الإعلان من قبل سبرنجر نيتشر، حيث يتعين على المؤلف سداد تلك الرسوم تحت بند "رسوم معالجة المقال وتجهيزه للنشر"، والتي من المرجح جدا ألا تكون في متناول الباحثين، وبخاصة الذين لا يرتبطون بأية جامعة من جامعات القمة على مستوى العالم؛ مما جعل دكتور علم الأعصاب يرى أن هذه خطوة من مؤسسة تقوم باستغلال واقع التمويل العلمي المتفاوت لزيادة أرباحها، أكثر من أنها خطوة تتخذها نحو تحقيق العدالة في الوصول إلى المحتوى الأكاديمي. كذبك، من المتوقع أن يلقي هذا الأمر بظلاله على هيكل تمويل الأبحاث، حيث أن مؤسسات التمويل ستكتفي بتصفح السير الذاتية للباحثين ذوي الأبحاث المنشورة بالدوريات العلمية "المرموقة" والتي أصبح النشر فيها يتوقف على من يدفع لا على صاحب المقال الأعلى في الجودة والقيمة.
وتبريرا لموقفها هذا، ترى مؤسسة سبرنجر نيتشر أنها تتقاضى "رسوم معالجة المقال وتجهيزه للنشر" لتغطية تكاليف الإنتاج حتى لا يضطر القراء إلى تحملها بأنفسهم؛ وبحاصة حيث أنه يتعين على الدوريات - مثل دورية نيتشر Nature – تقييم ومراجعة العديد من المقالات العلمية والتي يتم رفضها في النهاية، وأنه لا يتم تقاضي تلك الرسوم إلا من المقالات التي تم نشرها، ونتيجة لذلك، فإن تكاليف التشغيل الخاصة بكل مقال منشور على مستوى دوريات الدرجة الأولى تزيد عن الدوريات التي لا تطبق نفس معايير انتقاء المقالات للنشر.
وبمقارنة بسيطة، تجد أن سبرنجر نيتشر وغيرها من مؤسسات النشر الربحية تفرض رسوم على معالجة وتقييم المقالات وتجهيزها للنشر أعلى بكثير جدا عن مؤسسات النشر الغير هادفة للربح؛ حيث أن كبريات مؤسسات النشر الربحية – مثل سبرنجر نيتشر Springer Nature و إلسيفير Elsevier وويلي Wiley – تتقاضى 2.660 دولار أمريكي مقابل تجهيز المقال للنشر. وفي حين أن بعض مؤسسات النشر الغير ربحية – أمثال إي لايف eLife وبلوس PLOS تتقاضى نفس الرسوم تقريبا – وفقا لمواقع تلك الدوريات وبيانات دليل دوريات الوصول المفتوح - Directory of Open Access Journals (DOAJ) – إلا أن مؤسسات النشر الغير هادفة للربح والجمعيات الأكاديمية والجامعات تتقاضى 715 دولار امريكي مقابل إتاحة المقالات الأكاديمية بالمجان للقراء – حسب إحصائيات 2018.
على الجانب الآخر، يشير الدكتور جريجوري إلى أن إعلان سبرنجر نيتشر قد أحدث ضرارا جسيما يتعذر إصلاحه على مستوى النشر العلمي، حيث لا يتمكن من دفع تلك التكاليف سوى الجامعات الغنية في الدول الغنية، حيث لا يتمكن من دفع تلك التكاليف سوى الجامعات الغنية في الدول الغنية؛ في حين أن الباحثين المُعدمين تبقى أبحاثهم حبيسة خلف جدران الإلزام بالدفع بعيدا عن المستفيدين في أنحاء العالم، وهنا يزداد الأغنياء غنى.
وفي واقع الأمر، يقوم العوام بتمويل العديد من الأبحاث والتجارب من خلال الضرائب التي يسددوها. وفي نهاية الأمر، لا يستطيع هؤلاء العوام الاطلاع على هذه الأبحاث ونتائجها إلا بالدفع ليس فقط للاشتراك في هذه الدوريات بل للجهد الذي قام به المؤلف لكتابة أبحاثه التي مولها العامة في المقام الأول. وإذا ما اختارت الدورية العلمية ألا تفرض رسوم على القارئ، فإنها قامت بفرض تلك الرسوم على الباحث لتصل أبحاثه إلى العامة الذين مولوا أبحاثه من البداية.
لا بد من وجود ثقافة جديدة للنشر العلمي لا تكون عناوين الدوريات فيها هي العامل الرئيسي في تحديد جودة الوقة العلمية، وهذا يحتاج من العلماء أن يمارسوا اللعبة بقوانينها الجديدة، وإلا بقي العلماء فريسة لمؤسسات النشر الأكاديمي أمثال نيتشر وإلسيفير والتي زادت أرباح شركاتها الأم عن 30% في كل سنة على مدار السنوات الخمس الماضية.
ويرى الدكتور جريجوري ضرورة اتخاذ إجراءات تشريعية وتنفيذية، وأن يقوم بعض ممولي الأبحاث العلمية من القطاع الخاص بتشجيع الباحثين على إتاحة الأبحاث العلمية بالمجان بمجرد نشرها. على سبيل المثل، يتطلب معهد الصحة الوطنية بأمريكا إتاحة الأبحاث التي يقوم بتمويلها مجانا بعد سنة من نشرها؛ إلا أن سياسة النشر مفتوح المصدر التي تبنتها سبرنجر نيتشر تحتاج إلى أن تذهب إلى أبعد من ذلك وأن تطلب من متلقي المنح النشر في الدوريات الغير ربحية. ويعلق الكاتب أملا كبيرة على الإدارة الجديدة بالولايات المتحدة الأمريكية في إحداث مثل هذا التغيير.
للاطلاع على المقال: https://cutt.ly/ejDhssn