library management & Higher Education blog Naseej Academy Naseej Academy Send Mail

عن مدونة نسيج

تهدف مدونة نسيج الى توفير مساحات تشاركيه تتسع لكل المتخصصين والمهتمين بكل ما هو جديد في مجال المكتبات والتعليم العالي والتعلم عن بعد وتقنيات المعلومات والاتصالات وتقنيات الأرشفة وحلول المعرفة المتقدمة في التعليم العالي، المكتبات، ومراكز الأبحاث.

سجل هنـا لتصلك أحدث التدوينات
أكاديمية نسـيج على الفيسبوك 
 
 

مقــالات حديثة

من الأزمات إلى الحلول: الذكاء الاصطناعي وإعادة التخيل في المنطقة العربية

نُـشر بواسطة هيام حايك on 20/10/2025 05:25:11 م

تعيش المنطقة العربية فصولًا متلاحقة من الأزمات: تعقيدات اقتصادية، ضغوط مناخية، هشاشة بنى تحتية، وفجواتٍ في الخدمات الأساسية. لكن وسط هذا المشهد، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة لإعادة التخيل: ليس كترفٍ تقني، بل كبنيةٍ معرفية تساعدنا على رؤية الصورة كاملة، والتنبؤ بالمخاطر، وتحويل البيانات المتناثرة إلى قراراتٍ قابلة للتنفيذ. قوّة الذكاء الاصطناعي لا تكمن في “نموذجٍ خارق”، بل في تصميم حلول خفيفة، موثوقة، منخفضة التكلفة، ومراعية للخصوصية.

هذه المقالة تقترح انتقالًا عمليًا “من الأزمة إلى الحل”: كيف نبدأ بالموجود من بيانات مفتوحة ومحلية، ونبني طبقات ذكاء صغيرة تُحدث فرقًا كبيرًا؛ كيف نُدخل الحوكمة والأخلاقيات من اليوم الأوّل لتجنّب التحيّز، ونضمن الشفافية والمساءلة؛ وكيف نربط بين الجامعات، والهيئات الحكومية، وروّاد الأعمال لبناء منظومة تتشارك البيانات والمعايير والنتائج.

البنية المعرفية والحوكمة: من “الأداة” إلى “المنظومة

وهنا لا يكمن التحدي في امتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي، بل في تنظيمها وإدارتها ضمن منظومة معرفية متكاملة. فبدلاً من أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة منفصلة تُجرَّب في مشروع ثم تُهمل، علينا النظر إليه كبنية فوقية تنظّم تدفق البيانات، وتحكم جودة القرارات، وتربط بين الجهات المختلفة. تبدأ هذه المنظومة من حوكمة البيانات، وتحديد من يجمع البيانات، وكيف تُخزّن، ولأي غرض تُستخدم، إلى حوكمة الخوارزميات عبر ضمان الشفافية، تفسير النتائج، ومساءلة من يطوّر أو ينشر النموذج.

في السياق العربي، حيث تتفاوت القدرات التقنية والموارد المؤسسية، تصبح هذه الحوكمة صمّام أمان ضد سوء الاستخدام أو التحيّز، ووسيلة لبناء الثقة بين المواطن والمؤسسة. كما وأن وجود سياسات واضحة للخصوصية والأمان، وإطار قانوني للذكاء الاصطناعي، يخلق بيئة ناضجة لجذب الاستثمارات وابتكار الحلول المحلية. البنية المعرفية ليست مجرّد قاعدة بيانات مركزية، بل نظام يتعلّم ويتكيّف ويُنتج معرفة جديدة من التجارب اليومية. حين نفهم الذكاء الاصطناعي بهذه الطريقة، يتحول من “تجربة رقمية” إلى “قدرة وطنية” تؤثر في التنمية والحوكمة وصنع القرار.

من التجارب إلى التبنّي: حلول بسيطة قابلة للتشغيل

التحدّي ليس أن نثبت أنّ الفكرة ممكنة، بل أن نجعلها تعمل كل يوم وتفيد الناس فعلًا. الطريق الأسرع يبدأ بتصميم حلول بسيطة وواضحة تشتغل حتى مع إنترنت ضعيف، وبواجهة عربية سهلة القراءة، وتحمي خصوصية المستخدمين تلقائيًا، والبدء بإطلاق نسخة أوّلية تُركّز على مشكلة محدّدة وتُظهر قيمة ملموسة خلال أسابيع. نتابع بعدها مؤشرات سهلة الفهم: كم شخص استخدم الخدمة؟ هل اختصرَت الوقت؟ هل قلّلت الكلفة أو العناء على المستفيد؟ ثم نحسّن خطوةً خطوة بناءً على ملاحظات الناس، ونضيف الميزات الضرورية فقط. نبدأ بتجربة محدودة ونوسّع تدريجيا في حال نجحت. ولكن الاهم في هذه العملية، أن يبقى الانسان في مركز القرار: الذكاء الاصطناعي يقترح ويُسرّع، والقرار الاخير للخبير. بهذه الروح تتحول التجارب المتفرقة الى خدمات مستقرة تحسن الحياة اليومية وتكبر بثبات دون تعقيد او كلفة زائدة.

نحو منظومة بيانات عربية مشتركة: فتح البيانات والتشغيل البيني

لكي تنجح حلول الذكاء الاصطناعي وتستمر، نحتاج لغة مشتركة للبيانات. الجامعات والوزارات والبلديات ورواد الاعمال يجمعون معلومات مفيدة، لكن كل طرف يحتفظ بها في جزيرة مغلقة وبصيغ مختلفة. النتيجة، صعوبة في الدمج وتكرار الجهد وهدر الوقت والمال. الحل هو بناء منظومة بيانات عربية تشجع على مشاركة مجموعات مختارة من البيانات، بعد ازالة اي معلومات شخصية، وبصيغ موحدة يسهل على الانظمة فهمها.

عمليًا، نحتاج بوابات بيانات تنشر مجموعات محددة للاستخدام العام او للشركاء، مع وصف واضح لكل مجموعة، مصدرها وتاريخها وطريقة جمعها. ونحتاج معايير بسيطة لتنسيق الملفات واسماء الحقول، حتى تتحدث الانظمة معًا بسهولة. ومع المنظومة يأتي اطار حماية متكامل، سياسة خصوصية واضحة، ترخيص استخدام محدد، وآليات لجودة البيانات ومساءلة عند الخطأ.

الفائدة للمواطن وصانع القرار كبيرة، عندما تتدفق البيانات بشكل منظم تصبح الصورة اوضح والقرارات اسرع والابتكار اسهل. شركات ناشئة تبني خدمات فوق هذه البيانات، والهيئات الحكومية تتجنب الازدواجية، والجامعات تربط ابحاثها بحاجات المجتمع. هكذا تتحول البيانات من ملفات مركونة الى وقود مشترك يحرك التنمية ويقوي الثقة.

امثلة تطبيقية:

  • اقليميًا، الاسكوا تقترح اجندة رقمية عربية، يمكن تحويلها الى حزمة بيانات مرجعية في مجالات مثل الجغرافيا والسكان والخدمات، مع صندوق رمل تنظيمي وواجهات برمجية للقراءة، لتجربة نماذج مبنية على بيانات موثوقة.

  • وطنيًا في المملكة العربية السعودية، يقود مكتب ادارة البيانات الوطنية NDMO اطار الحوكمة والسياسات والقواميس، بينما تجمع منصة بنك البيانات الوطني كتالوجات بيانات الجهات في مكان واحد مع واجهات برمجية مقننة ومتابعة لجودة التحديث.

تحويل الذكاء الاصطناعي الى خدمة: ادوات، مؤشرات، وتعلم مستمر

كما أشرنا سابقاً، نقطة البداية ليست في امتلاك النماذج بل في تحويلها الى خدمات يومية تفيد الناس. نركز على ادوات بسيطة قابلة للاستخدام، مؤشرات قياس واضحة، ودورة تعلم مستمر من ملاحظات المستخدمين. خلال هذا المحور سنعرض ثلاث تطبيقات عملية في التعليم والزراعة والصحة مع لمسة ذكية من تجارب المملكة العربية السعودية كأمثلة ملهمة.

التعلم المُوجَّه بالذكاء الاصطناعي

يرتكز هذا التوجّه على تحويل بيانات التعلّم إلى قرارات فورية تُحسّن التجربة التعليمية لحظة بلحظة. تُخصَّص المسارات تلقائيًا وفق مستوى الإتقان وسرعة التقدّم، وتعمل لوحة إنذار مبكر مدفوعة بنماذج تنبؤية على رصد مؤشّرات التعثّر قبل تفاقمها وتفعيل مسارات دعم مناسبة. يساند ذلك مساعد إداري ذكي يضغط محتوى المحاضرات إلى خلاصات عملية، ويولّد مهامًا واضحة داخل نظام إدارة التعلّم، مع اقتراحات محتوى وأنشطة تقوية مبنية على الفجوات الفعلية لدى المتعلم. نقيس الأثر بمنهجية دلائل واضحة تشمل معدّل الإتمام، ونِسَب خفض التعثّر، وزمن استجابة فرق الدعم الأكاديمي، إضافةً إلى تتبّع تحسّن الشرائح الأكثر هشاشة لضمان عدالة الوصول. وتستند الرؤية إلى نماذج مُلهِمة في السعودية؛ إذ أطلق المركز الوطني للتعليم الإلكتروني مبادرات لاختبار تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل AI Sandbox ضمن إطار تجريب منظّم، بالتوازي مع التوجّه الرسمي لإدراج منهج الذكاء الاصطناعي في التعليم العام ابتداءً من العام الدراسي 2025–2026، بما يعزّز بناء مهارات مستقبلية واسعة ويُمكّن تبنّي هذه الممارسات على نطاق مؤسسي.

 

الزراعة الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي

تتحوّل الزراعة من نشاط تقليدي يعتمد على الخبرة البشرية إلى منظومة ذكية تتفاعل مع البيانات لحظة بلحظة. تُستخدم تقنيات الرؤية الحاسوبية لاكتشاف الأمراض مبكرًا عبر تصوير أوراق النبات بالهاتف المحمول، فيما تُدمَج بيانات الطقس ورطوبة التربة وصور الأقمار الصناعية في نموذج ريّ تنبّؤي يحدّد التوقيت الأمثل للريّ وكميته بدقّة. يساند المزارع مساعد رقمي ناطق بالعربية يقترح خطة عمل أسبوعية متكاملة تشمل توصيات بالمغذّيات، وتتبّع نموّ المحاصيل، وتذكيرات بالعمليات الزراعية الدورية. تقاس نتائج هذا التحوّل عبر مؤشّرات واضحة تشمل وفورات المياه، وزيادة إنتاجية الهكتار، وخفض تكاليف المبيدات والأسمدة، إلى جانب تحسين جودة المحصول واستدامة التربة. وتبرز في السعودية تجارب ملهمة مثل Red Sea Farms التي طوّرت أنظمة مراقبة مدعومة بالذكاء الاصطناعي داخل البيوت المحمية، وتجارب نيوم في مدينة Oxagon التي تختبر نماذج تنبؤية لإنتاج غذاء محلي بكفاءة، فضلًا عن جهود المركز الوطني للنخيل والتمور في إتاحة بيانات وإحصاءات قطاعية تُشكّل قاعدة لتوسيع الابتكار الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي المستدام.

رعاية صحية تنبؤية وفعّالة

يرتكز نهج الرعاية الصحية التنبؤية والفعّالة على تحويل بيانات المرضى إلى قرارات سريرية لحظية: نماذج فرزٍ مساعدة تعيد ترتيب الأولويات في التصوير والعيادات لتقليل الانتظار، وملخّصات ذكية للسجلات تختصر العِلل والأدوية والنقاط الحاسمة وتحرّر وقت الطواقم للمريض، ولوحة إنذار مبكر للصحة البيئية تدمج جودة الهواء والمياه مع صور الأقمار الصناعية لرصد المخاطر المجتمعية. نقيس الأثر عبر تحسّن دقة الإحالات، وانخفاض الأخطاء الإدارية، وتقليص زمن الانتظار، وعدد التنبيهات البيئية المفيدة. مثال سريع: في عيادة تصوير مزدحمة، يحلّل نظام الفرز بيانات الإحالة والأعراض فيقدّم قائمة انتظار ذكية تُقدَّم فيها حالة عالية الخطورة لساعات بدل أيّام، بينما يتلقّى الآخرون مواعيد دقيقة وتعليمات تمنع الإعادات، ويصل للطبيب ملخّص من صفحة واحدة يرفع جودة القرار. ويمكن الاستفادة من التجارب الإقليمية مثل “مستشفى الصحّة الافتراضي” في المملكة الذي يدمج الطب الافتراضي مع أدوات الذكاء الاصطناعي لتوجيه المرضى وتسريع المسارات الحرجة ضمن حوكمةٍ وخصوصيةٍ واضحة.

شراكات التنفيذ الذكي: دور الشركات الخبيرة في تحويل الفكرة إلى خدمة

الذكاء الاصطناعي لا يزدهر في المختبرات وحدها؛ يحتاج إلى منصة متكاملة وحوكمة رصينة وتجربة استخدام سهلة ليصبح خدمة يومية موثوقة. هنا يبرز دور الشركات الخبيرة التي تختصر المسافة من الفكرة إلى نموذج أولي عامل، وتوفّر أدوات قياس للجدوى مثل تبنّي المستخدمين، وزمن الاستجابة، ووفورات الكلفة. وفي بيئة رقمية متقدّمة مثل المملكة العربية السعودية، تصبح سرعة التنفيذ والاعتمادية والتكامل بين الأنظمة ممكنة على نطاق مؤسسي واسع. كمثال عربي قريب للسياق، تُعد منصة مداد السحابية من نسيج نموذجًا عمليًا لكيفية توظيف الذكاء الاصطناعي عبر ثلاث طبقات مترابطة: في طبقة البيانات والتكامل تُربَط الأنظمة القائمة عبر واجهات API وتُوَحَّد القواميس الحقلية، مع إثراء البيانات بقدرات OCR والتعرّف على الكيانات واكتشاف التكرار وإخفاء البيانات الحسّاسة بما يتماشى مع ممارسات الحوكمة الوطنية (مثل NDMO). وفي طبقة المنتج تُقدَّم واجهات عربية RTL سهلة، وبحث دلالي وتوصيات محتوى، وتلخيصات ذكية للمستندات أو المحاضرات، ولوحات قياس لحظية لتبنّي المستخدمين وجودة البيانات، مع قابلية نشر سريعة تستفيد من البنية الرقمية القوية. أمّا طبقة التشغيل والاستدامة فتدير دورة حياة النماذج ، تراقب الانحراف وتحدّث النماذج تدريجيًا دون تعطيل، وتوفّر دعمًا بمستويات خدمة واضحة وبرامج تدريب ونقل معرفة لضمان ملكية محليّة. بهذه الشراكات يتحوّل الابتكار إلى خدمة تعمل فعليًا خلال أسابيع قليلة، بمسار توسّع تدريجي وقياسٍ صارم للأثر على المستخدم والميزانية، وفي بيئة تقنية جاهزة للتعميم على مستوى وطني.

 

 

Topics: التحول الرقمي, حوكمة البيانات, الزراعة الرقمية, تشغيل بيني للبيانات, ابتكار اجتماعي, واجهات برمجية API, صحة رقمية