عندما يبدأ الحديث عن المعرفة، فالبعض قد يبدأ بالحديث عن المعرفة التقليدية ويعرفها: بأنها ممارسة متبعة ومتوارثة عبر الأجيال الممثلة لعموم المجتمع، وهي إما أن تكون مدونة ( موثقة ) أو شفوية وتشكل جزءا "من السياق الاجتماعي أو التاريخي أو الديني لشعوب منطقة ما. ولكن كيف يكون الحال مع معرفة غير تقليدية تنتجها حياة معاصرة من أهم صفاتها: التغيير المتسارع؟ فعالم اليوم لا يتوقف أبداً . إن قدرته السريعة على التغيير قد أصبحت صفة أساسية للتطور التاريخي العالمي. ولأول مرّة في تاريخ حضارتنا، تأتي وتذهب أجيال من المنتجات والأفكار بشكل أسرع من أجيال الناس الذين يخلُف بعضهم البعض. كذلك فإن القدرة على التغيير تكشف عن نفسها من خلال التنوّع الذي لا سابق له. هذا التغيُر الذي تحدثه الأجيال المتعاقبة التي تأتي وتذهب، يفتح أفاقاً واسعة للكثير من التساؤلات حول مصير هذه المعرفة، وآليات الحفاظ عليها والحاجة للتأكد من أن معارف وخبرات الأجيال التي تذهب لا تنقضي بذهابهم. قد تكون اليزابيث ليندسي المتخصصة في الأنثروبولوجيا قد فهمت مدي الحاجة إلى الحفاظ على معرفة الأجيال السابقة، قائلة: "عندما يموت أحد الشيوخ، تحترق مكتبتة." (ليندسي، 2011)
تشير ليندسي من خلال هذا الطرح إلى مدى الحاجة إلى منهج واستراتيجيات تقوم بإدارة وتنظم عملية تمرير المعرفة بين الأجيال، والبحث في كيفية إيجاد آليات لعمل الأجيال المختلفة معا لخلق مزيد من المعرفة وتمكين المجتمعات والاقتصاديات والمنظمات من مواصلة التقدم والتطور، دون خوف من نزيف قيمة الموارد المعرفية.
النظريات المؤسسة لإدارة المعرفة
يمكن القول أن Peter DRUCKER هو من الأكاديميين الأوائل الذين قاموا بطرح إدارة المعرفة كمفهوم أساسي في سياق النجاح الاقتصادي للمنظمات، عندما قال: " للإبقاء على المنافسة نشطة وحية بين المنظمات، فلابد لمعظم المؤسسات امتلاك القدرة على التحول إلى نمط من المنظمات القائمة على المعلومات، ولابد أن يتم هذا التغير بسرعة إلى حد ما. كما أنهم سيكونون مطالبين بتغيير الكثير من العادات القديمة واكتساب مهارات جديدة؛ وستكون إنتاجية المعرفة هي العامل المحدد لقدرتها التنافسية، وستصبح القدرة على الاستفادة القصوى من المعرفة المتاحة قبل أن يحصل المنافس عليها من أهم مكامن القوة "العمل النموذجي سيكون قائماً على المعرفة وأن المنظمات ستتكون من صناع المعرفة. للوقوف على رؤية أوضح لإدارة المعرفة كان لابد بالمرور ببعض المفاهيم المرتبطة بإدارة المعرفة مثل المنظمة المتعلمة والذاكرة التنظيمية للمعرفة، ومن هناك سيتم الانتقال إلى استراتيجية نقل المعرفة للجيل القادم، جيل المستقبل.
المنظمات المتعلمة
المنظمات المتعلمة هي المنظمات التي تمتلك مهارة خلق ونقل المعرفة في داخلها، والقادرة على الاستجابة لتلك المعرفة، وإذا لزم الأمر، تقوم بتعديل سلوكها وفقا لذلك. تعتمد النظريات الخاصة بالمنظمة المتعلمة على كيفية تعلم الفرد والفوائد التي يتم تحقيقها.
ورد ذكر مصطلح المنظمات المتعلمة لأول مرة على لسان "بيتر سينج" الذي عرف تلك المنظمات بأنها: المنظمات التي يوسع فيها الأفراد قدراتهم على خلق النتائج التي يريدونها، والتي يجري فيها تنشئة أنماط جديدة وشاملة من التفكير، ويعبر فيها عن الطموحات الجماعية بحرية، وحيث يتعلم الأفراد باستمرار كيف يمكن أن يتعلموا معا".
هناك خمسة مناطق رئيسية تتفوق فيها منظمات التعلم وهي: المنهجية المستخدمة في حل المشكلات، والقدرة على الحل والتجريب باستخدام منهجيات خلاقة، والتعلم من تجاربهم الخاصة وأخطاءهم الماضية وتحويلها الي مرتكزات للتأمل والعمل والتجريب، والتعلم من خبرات الأخرين والاطلاع على أفضل الممارسات لديهم والتعلم منها، ونقل المعرفة بسرعة وكفاءة في جميع أنحاء المنظمة".
"تتطلب استراتيجيات إدارة المعرفة أنواعاً مختلفة من البُنى التحتية لتقنية المعلومات وكذلك مستويات مختلفة من الدعم.
الذاكرة التنظيمية للمؤسسة
يقول المؤرخ البريطاني هوبل: "إن أردت أن تلغي شعباً ما، عليك أولا أن تبدأ بشلِّ ذاكرته، ثم تلغي كتبه وثقافته وتاريخه، ثم تكتب له كتاباً واحداً فقط وتنسب له ثقافة هذا الكتاب، وتخترع تاريخاً من هذا الكتاب وتمنع عنه أي كُتب أخرى عندئذ ينسى هذا الشعب من كان وماذا كان وينساه العالم". رسالة صريحة وضمنية للتدليل على أهمية ذاكرة الأمة، والتي هي بمثابة المستودع المعرفي للأمة والذي يتطلب التحول إلى ذاكرة تنظيمية.
الذاكرة التنظيمية هي المستودع الذي يخزن فيه معرفة الشركة بهدف الاستخدام المستقبلي، وكلما كانت الشركة فعالة في استخدام (ذاكرة) هذا المستودع فإن ذلك مؤشر دال على التعلم التنظيمي، وعلى الفاعلية العالية أيضا.
الذاكرة التنظيمية تتواجد في الأشخاص ذوي الذاكرة الفعالة، وفي ثقافة الشركة، وفي المعرفة الصريحة المسجلة في الشركة بشكل وثائق وقواعد بيانات وبرمجيات وفي استراتيجيات وسياسات الشركة، لذا من المهم تعظيم الاستفادة من الذاكرة التنظيمية من خلال التوثيق الفعال لتجارب وخبرات الشركة والمحافظة على أفرادها الأساسيين بما يضمن استمرارية الذاكرة الحية للشركة وتواصلها، وتحسين عملية الوصول لمعرفة الشركة باستخدام تقنية المعلومات وتحويل المعرفة الضمنية إلى صريحة مع وجود هيكلية تسمح بإبقاء أكبر ما يمكن من معرفة الأفراد في أنظمة الشركة... ذلك يتضمن تنمية روح الولاء والاستمرارية لديهم .
الذاكرة المفقودة: مكتبات دمرت في القرن العشرين و الحادي والعشرين
قد يكون تدمير المكتبات ليس بالموضوع الجديد فقد شهدت القرون الماضية وما قبل الميلاد، العديد من الجرائم البشعة بحق المكتبات مثل: حرق مكتبة الإسكندرية الذي كان في عام 48 ق.م، وإلقاء المغول لملايين الكتب الثمينة في نهر دجلة في عام 1258... وتدمير مكتبة غرناطة عند سقوط الأندلس عام 1492م، وإحراق مليون كتاب في أحد الميادين العامة!
القرن العشرين والحادي والعشرين شهد أيضاً دمار العديد من المكتبات والتي نذكر هنا بعضاً منها، على سبيل المثال لا الحصر:
في عام 1914 فقدت مكتبة الجامعة الكاثوليكية في لوفان ببلجيكا أكثر من 300.000 مجلدا، ومئات من المخطوطات التي تحولت جميعها إلى رماد بعد أن اطلق الجنود الألمان النار في المكتبة في 25 آب بعد الغزو الألماني لبلجيكا في بداية الحرب العالمية الأولى.
في عام 1923 تم تدمير معظم محتويات مكتبة جامعة امبريال في طوكيو، والتي بلغت أكثر من 70.000 مجلدا.
في الفترة من 1936 -1945 وهي سنوات الحروب بين الصين واليابان تم تدمير العديد من المكتبات الخاصة والعامة الكبيرة في الصين. كانت الخسائر ما بين 200.000 إلى 350.000 من المقتنيات بما في ذلك كتالوج البطاقات (فهرس المجموعات حينها).
في عام 1978 سبب انقطاع المياه في مكتبة جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة أضراراً كبيرة تجاوزت 400.000 مجلد بالإضافة إلى أكثر من 3.000 من المقتنيات الثمينة بما في ذلك الكتب المصغرة.
في نيسان 1986 التهمت نيران متعمدة ثالث أكبر مكتبة عامة في الولايات المتحدة، والتي خسرت ما يقرب من 400.000 من وحدات التخزين. في أسوأ حريق لمكتبة في التاريخ الأميركي، كما كانت هناك 700.000 مادة أخرى غارقة في المياه.
في عام 2003م نُهبت المكتبة الوطنية والمتحف الوطني في العراق، فضاعت الكثير من المخطوطات والوثائق والكتب النادرة والمراجع القيمة، والكثير من النتاج الفكري تقريبا لم يبق شيء من المكتبة، والأرشيف ومجموعات المتحف والملايين من المخطوطات، المواد الأرشيفية الغير منشورة، والكتب، والصحف العراقية.
في عام 2006م.، دمر ما نسبته 70% من المطابع ودور النشر اللبنانية المتوافرة في الضاحية الجنوبية.
في ديسمبر 2011 تم حرق المجمع العلمي المصري الذي يضم عشرات الألوف من الكتب والمخطوطات والوثائق النادرة. أدي حريق المجمع العلمي إلى "تدمير 200 ألف كتاب نادر أهمها كتاب وصف مصر".
في يناير 2014 تم بحرق مكتبة "السائح"، أضخم وأهم مكتبة في طرابلس لبنان، كانت المكتبة تضم ما يزيد على 80 ألف كتاب.
وماذا بعد؟؟!!!! من الواضح أن المسلسل المستمر لدمار وحرق المكتبة، هو هدر فظيع لقطاع مهم يشكل حصة كبيرة من الأصول المعرفية، قد يري الكثير في الذاكرة الرقمية حلاً فاعلاً لحماية وادارة هذه المعرفة وضمان انتقالها وتسليمها من جيل لجيل ... ولكن ماذا لو أن الذاكرة الرقمية تلاشت وأصابها العطب؟؟؟ هنا يصبح التفكير في حلول إدارة المعرفة هو الخيار الاستراتيجي للمحافظة على المعرفة وتنظيمها، كما أنه من المهم البحث عن حلول إدارة الأرشيف مثل نظام أدليب على سبيل المثال، و بناء المراكز الرقمية، وخدمات التحويل الرقمي، و الفهرسة، والتوصيف، والترميز للمقتنيات. كجزء من الاستراتيجية الشاملة لإدارة المعرفة
استراتيجيات ادارة المعرفة
اقترح Hausen وزملاءه نوعين من استراتيجيات إدارة المعرفة، الأولي استراتيجية الترميز أو التشفير codification strategy، أما الثانية فهي استراتيجية الملكية الشخصية personalization strategy، تتطلب استراتيجية التشفير تصنيف المعرفة إلى قواعد بيانات مختلفة بحيث يمكن لأي شخص في المؤسسة استرجاعها بسهولة، مما يعني أن المعرفة مشفرة بشكل دقيق ومخزنة في قواعد البيانات. بالمقابل فإن استراتيجية الملكية الشخصية تكون متواجدة حينما تكون المعرفة مرتبطة بالشخص الخبير الذي يملكها، ويمكن تقاسمها بشكل رئيسي من خلال التواصل بين شخص وآخر. في نموذج التشفير، المديرون بحاجة لبناء نظام قريب إلى حد كبير مما نراه في المكتبات، حيث يحتوي النظام على كمية كبيرة من الوثائق وتشمل محركات البحث التي تسمح للناس بإيجاد واستخدام الوثائق التي تحتاج إليها. في نموذج التخصيص، المدراء بحاجة أكثر إلى بناء نظام يسمح الناس العثور على أشخاص آخرين. الاستراتيجيتان في غاية الأهمية لتحقيق الميزة التنافسية وخلق عملاء للمؤسسة وتحقيق الأرباح.
لابد من التنويه إلى إن إدارة المعرفة ولدت داخل الصناعة وليس داخل الأكاديميات ولا حتى داخل المنظمات المعرفية. كما أنه من الملاحظ جدا أن غالبية نظريات إدارة المعرفة قد شيدت منذ أكثر من عقد من الزمان، وقد رأينا جيلاً جديداً يدخل قوة العمل؛ جيل قد فهم أهمية التعليم والمعرفة للمنظمة لكن ليس لنفس لأسباب التي رأتها الأجيال السابقة. وهذا هو السبب في أن تعريف الأجيال وسماتها يصبح عاملاً مهماً في فهم كيفية تفاعلها، وتحديدا في سياق إدارة المعرفة، وكيفية استفادة المنظمات والاقتصاديات. فالأشكال الجديدة للمنظمات التي تقصي الهيكلة أو التسلسل الهرمي هي منظمات متعلمة، منظمات افتراضية، جماعات خبيرة ... كما أن الإبداع هو المحدد الجديد لتنافسية المنظمات في اقتصاد مبني على المعرفة، والاستفادة منه تتوقف على السرعة.
إعداد: هيـام حـايك- كاتبة بمدونة نسيــج
المصادر: http://www.iiaweb.com/services/infomgmt