كنا قد تناولنا في الجزء الأول والجزء الثاني من التدوينة الخاصة بمؤتمر قمة المكتبات الذي عقد خلال الشهر الماضي في مكتبة الكونجرس المحاور الرئيسية الأربع التي أثارها المتحدثون الرئيسيون في القمة والحوارات التي تلتها. نركز هنا وفي الجزء الأخير من تقرير القمة على الموضوعات والمفاهيم التي تولدت أثناء مناقشة الحضور للعروض الأربعة التي قدمها المتحدثون الرئيسون في هذه القمة؛ حيث تم تجميع هذه الموضوعات في ستة مجالات محددة كانت : تشجيع محو الأمية لدى الأطفال والشباب؛ بناء المجتمعات؛ حماية وتمكين الحصول على المعلومات؛ تعزيز البحوث والمنح الدراسية؛ الحفاظ و / أو إنشاء التراث الثقافي؛ و دعم التنمية الاقتصادية والحكم الرشيد. كل موضوع من هذه الموضوعات أخذ منصة خاصة به وبدأت جميعها عملها في نفس الوقت. تم ترك الخيار للمشاركين في حضور منصة العرض التي يرغبون في حضورها, كلٍ حسب اهتمامه.
تعزيز محو الأمية. وبخاصة لدى شريحة الأطفال والشباب
اعترف العديد من المشاركين أن المكتبات العامة تستسهل التعليم المبكر Early Learning؛ نظراً لأنه من أحد المجالات التي يمكن للمكتبات أن تظهر فيه قيمتها وجهودها في التعلم غير الرسمي والتي يمكن أن تؤدي إلى النجاح في التعليم النظامي. ومع ذلك، أثار أحد المشاركين مسألة كيفية قياس أثر المكتبة في التعليم غير الرسمي, عندما يمكن أن يعتمد النجاح الفعلي للمتعلم على عوامل متعددة وليس فقط على الجهد المبذول من قِبَل المكتبة. علق مشارك آخر أن محو الأمية في وقت مبكر يمكن أن تتأثر بأنشطة وبرامج مشتركة بين الأجيال المختلفة. أشار مشارك ثالث إلى ضرورة أن ننظر للمكتبات وتوسيع برامج محو الأمية للأشخاص الراغبين في تعلم اللغة الإنجليزية، بغض النظر عن أعمارهم. و مرة أخرى، أقر المشاركون أن الثقة في المكتبة و بناء الشراكات تساهم في تحقيق النجاح.
بناء مجتمعات تخدمها المكتبات
كان موضوع دور المكتبات في بناء المجتمع الذي تعمل فيه المكتبة من الموضوعات التي وردت في جميع المناقشات طوال اليومين؛ وإن كان يعنى بالنسبة للبعض العمل مع الأفراد, فقد كان يعنى بالنسبة للأخرين المجتمع ككل .
أثار أحد المشاركين مسألة تحديد من هم الناس الذين تخدمهم المكتبة؟ و الحاجة إلى "رسم خرائط للأماكن و التأكد من أن الناس الذين تخدمهم المكتبة هم جزء من الخرائط. كما ناقش المشاركون مفهوم دورة حياة المجموعة" lifecycle of grouping "؛ فالناس يأتون معا كرشقات نارية قصيرة ومن ثم يختفون. كيف تحافظ المكتبة على الحماس و استمرارية الخدمة في هذا السياق؟ وعلى نفس المنوال كانت مسألة استقطاب المجموعات المختلفة للمشاركة في الأنشطة.
المشاركون في هذه الحلقة النقاشية أثاروا بتعمق دور المكتبة في تمكين المجتمع بشكل عام. حيث ناقش المشاركون عملية التخطيط لخدمات مكتبات المستقبل وأهمية التخطيط فيما يتعلق بالأهداف الشاملة للمجتمع ومساهمات المكتبة في تلك الأهداف. اقترح أحد المشاركين التحول من عقلية تخدم المجتمعات المحلية إلى عقلية تعمل مع المجتمعات المحلية, موضحاً بأن ذلك سوف يساهم في الصحة العامة للمجتمع من حيث خلق محتوى القضايا و المشاريع المجتمعية و إتاحة الموارد للحفاظ على المجتمع و دعمه بالمعلومات. وفق هذا الطرح يتم النظر إلى المكتبة بمثابة "حلقة الوصل" بين الناس و القضايا و المنظمات في المجتمع.
حماية وتمكين الوصول إلى المعلومات
وقد كانت جلسة النقاش الأقل حضورا, وقد علق أحد الحضور على ذلك "لم يكن الأمر مفاجأة فالوصول إلى المعلومات أصبح أمرا مفروغا منه وقد انتشر على نطاق واسع. إلا ان مفهوم الوصول لا يجب أن يقتصر على الوصول إلى التقنيات و المعلومات ولكن لابد من الوصول أيضا للمهارات، ورفع دور المكتبات في التعليم واعتمادها من جديد كمركز تعليمي. في هذه الجلسة تمت إثارة مسألة في غاية الأهمية وهي الافتراض الدائم لإمكانيات الحصول على التقنيات في كل مكان وذلك بفعل التوسع التقني والمهارة في استخدام التقنيات الجديدة, إلا أنه لابد من الانتباه لأن الوصول إلى التقنية قد لا يكون في كل مكان كما يفترض . ناقش الفريق أيضا قضية الإنصاف في الوصول والإتاحة من حيث الوصول الفعلي ( داخل المدينة، ولذوي الاحتياجات الخاصة) ومعرفة كيفية الوصول إلى (كثير من المواطنين كبار ), ذلك يعنى أن المكتبات في حاجة إلى النظر من جديد في الاحتياجات المختلفة فيما يتعلق بالوصول ومدى استعدادها لتلبية الاحتياجات المتعددة .
تعزيز البحوث والمنح الدراسية على جميع المستويات
دارت المناقشة في هذه المجموعة حول الأدوار المختلفة للمكتبات في جمع وعرض المنح الدراسية و البحثية المتاحة؛ وتنظيم البيانات الخام بحيث تكون مفهومة و قابلة للاستخدام؛ بالإضافة إلى أهمية تدريس المهارات البحثية لأولئك الذين لا يملكون هذه المهارات. أحد المشاركين وصف ذلك "المعلومات هنا وهناك... كيف نأخذ من هذا ومن ذاك؟ كيف اضمن أن وصولي إلى هنا لم يضيع ما هو موجود هناك؟ " أشار البعض إلى الحاجة إلى تبنى المكتبات تعليم مهارات محو الأمية المعلوماتية في وقت مبكر, وضرب مثال على ذلك "إمكانية تدريس الاطفال البالغين من العمر 8 سنوات حول البيانات الوصفية باستخدام مجموعة الكتب الهزلية والقصص التي ينجذبون إليها" .
الحفاظ على و / أو إنشاء التراث الثقافي
دار النقاش في هذه المجموعة حول ما الذي يجب أن يُجمع وكيف يتم جمعه... القضية الرئيسية هنا وعند بدء الحديث عن ما الذي يجمع, هي مسألة كيفية تعريف التراث الثقافي. وهل يجب أن تكون عملية انتقائية تقوم بها المكتبة, وتكون هي المسئولة عن تحديد ما الذي يجب الحفاظ عليه, أم أننا سنترك المجال للروبوتات للحفاظ على كل ذلك؟ " أي جزء من التاريخ في أي مجتمع يجب الحفاظ عليه و أي جزء يجب أن نتجاهله؟ كما دعونا لا نتجاهل حقيقة أن الفائزين هم من يكتبون التاريخ " winners write the history " وأن بعض الأشياء تختفي لأسباب سياسية.
هناك معطى مهم، يُحفز مشروع وآفاق المكتبات، وهو تمكين المواطنين والباحثين من الخارج من إمكانية الاطلاع على التراث الوطني، لأنه لا يمكن للمكتبات أن تخدم التراث الحديث بدون خدمة التراث المحلى، على اعتبار أن التراث المحلى جزء مُهم من الشخصية والهوية لأي بلد ما, وهذه مهمة أساسية تتبناها المكتبات بصفة عامة والمكتبات الوطنية بصفة خاصة.
كان هناك إجماع داخل المجموعة بعدم وجود عملية منظمة لتقييم الموارد على شبكة الإنترنت و الحفاظ عليها, فبعض المواد التي نجدها اليوم لا نجدها بالغد, فالسياسات العامة لا تستطيع حمايتها أو المحافظة عليها. المكتبات في حاجة إلى صورة واضحة عن ما هو متواجد هناك وتحديد أولويات الحفاظ عليه.
" كيف نحافظ على المقتنيات؟ وما هو الأهم: المحافظة على الشكل أم على المحتوى؟ فكثيرا ما يتم تدمير المجموعات للمحافظة على أحد الخيارين" كانت هذه من الأسئلة التي أخذت موضع هام من النقاش.
كما أن هناك حاجة لمهارات خاصة للحصول على الروايات الشفوية بما في ذلك ذكريات ماضي الأمة ورواياته - وتمييز ما هو واقعي منها مما هو خيالي؛ فنحن نعيش اليوم زمن التسارع التاريخي. و مسألة حرفية المؤرخ تشكّل تحدياً حقيقياً بسبب ضرورة التعامل مع المعلومة الشفوية. من هنا تنبع الأهمية القصوى للتاريخ الشفوي .
دعم التنمية الاقتصادية والحكم الرشيد
ناقشت هذه المجموعة في المقام الأول دور المكتبات العامة في دعم التنمية الاقتصادية والحكم الرشيد. واقترح المشاركون عددا من الطرق التي توفر العديد من الخدمات التي تصب في دعم التنمية الاقتصادية وفتح المجال لانعقاد عددا من الورش الخاصة بتعبئة الموارد الممكنة وتدبير الممتلكات التي توفر مداخيل للجماعات، وتحسن من تدبير المشروع التنموي المحلي وذلك بحسن استثمار الموارد المادية والبشرية المتاحة للجماعات المحلية.
طرح البعض أفكار خارج النطاق التقليدي لعمل المكتبة مثل جلب الشركات التجارية (مثل محل لبيع الزهور، والمتاجر، أو مغسلة بخار ) في المكتبة. طرح بعض المشاركين في هذا الفريق عمل المكتبات مع المتاجر الكبرى لإيجاد فروع صغيرة في المكتبة .
اتفق المشاركون في حلقة النقاش هذه على ضرورة القرب والتشارك والإشراك للمعلومات، وتبنى اللامركزية والتواصل كشروط أساسية لتأمين الإنجاز الذي يرتكز على الكفاءة والشفافية والجودة والنجاعة، والحد من هدر الوسائل والإمكانات. والأهم من هذا توعية جميع الأطياف التي تخدمها المكتبات بدورهم في تحقيق التنمية، والتي يتم بناءها انطلاقا من وعيهم بحقوقهم وواجباتهم وما يجري حولهم من أحداث ووقائع، وقدرتهم على فهم مشكلات المجتمع. وهذا الخبرة والوعي بحقهم في الحصول على المعلومات من مختلف المصادر والتي تتحمل المكتبات جزءً كبيراً من المسئولية في إتاحتها وتمكين المواطنين من الوصول إليها.
تأملات فيما أسفرت عنه القمة:
كان من الواضح أن القمة لم تكن عملية تصميم لمكتبات المستقبل. وإنما فرصة لتشكيل و إعادة صياغة بعض القضايا والأسئلة الهامة: كيف يمكننا توسيع/ إعادة التوازن / تعزيز / إعادة تصميم المكتبات و خدمات المكتبة والمضي قدما. من الآن فصاعدا: ما القيمة التي ستضيفها المكتبات؟ ما الفرق الذي ستحدثه المكتبات؟ ما الأعمال المستقبلية التي سوف تنخرط فيها المكتبات؟ "
وكان من الواضح الإجماع على أن أدوار المكتبات ستتصف بكونها "فعالة وتعاونية و تنموية " كما ستركز المكتبات مع مرور الوقت على بناء علاقات مستمرة مع الأفراد والمجتمعات التي تخدمها. وسوف يقاس نجاح المكتبة من خلال النجاح التأسيسي. و سوف تستند هذه العلاقة المستمرة على الثقة. وسيكون التحدي القادم للمكتبات قدرتها على استيعاب التحول في بيئة ذات علاقات غير مستقرة وعمليات لا يمكن التنبؤ بها والأخذ بهذه العلاقات إلى منحى مستقر نوعا ما.
يجدر الإشارة أن هناك موضوعيين كانت تُغزل خيوطهما طوال المناقشة وهما: الحواجز التي تحول دون تحقيق ما تم مناقشته و دور المنخرطين في السلك التعليمي في تصميم مستقبل المكتبات.
حواجز سوف تواجهها المكتبات في المستقبل
في حين كانت النقاشات بصفة عامة حول مستقبل المكتبات إيجابية للغاية، أعرب بعض المشاركين عن قلق بالغ بشأن الحواجز التي قد تمنع المكتبات من المضي قدما كما يريدون. وذكر أحدهم أن المكتبات لن تكون قادرة على إقناع المجالس والإداريين بقيمة المكتبة للمجتمع وقيمة التعاون مع المكتبة فيما يختص بالقضايا المجتمعية. ومن ثم فإن الأموال لن تكون متاحة للتخطيط و تنفيذ الأفكار المثيرة التي تمت مناقشتها. وارتبط بهذه المخاوف إحجام أو عدم قدرة المكتبات القيام بجمع وتحليل البيانات لاتخاذ القرارات.
الحاجز الثاني الذي ستواجهه المكتبات ربما سيتمثل في المعارضة التي ستصدم بها المكتبات من قبل المؤسسات التجارية في حال قامت المكتبات بإعادة تحديد مهامها؛ فعلى سبيل المثال في حال قامت المكتبة بتوفير حرية الوصول إلى الخدمات المتاحة حاليا بسعر التكلفة فقط فإن ذلك سيحد من فرص الحصول على الكتب التي كتبها كبار الناشرين.
أما العقبة الثالثة التي طرحها المشاركون فهي الحراك السريع على المستوى الجماهيري, فمما لاشك فيه أن الحراك الجماهيري هو أسرع من الحراك على مستوى المكتبات مما سيجعل المكتبات دائما غير قادرة على مسايرة حراك جمهورها.
كان العقبة الرابعة التي صاغها أحد المشاركين بالمهمة الزاحفة "mission creep" وشرحها قائلاً "ربما ينبغي لنا أن نكف عن محاولة أن يكون كل شيء للجميع, ولابد من تحديد الأولويات ".
تعليم وتدريب موظفي المكتبة
يرى بعض المشاركين في القمة ضرورة مشاركة العاملين في المكتبات في مؤتمرات ليست موجهة للعاملين في المكتبات كالمؤتمرات التي تهتم بالاقتصاد أو التعليم أو مؤتمرات مؤسسات المجتمع المدني... إلخ، والتحدث مع الناس هناك حول فرص التعاون الممكنة. هذا من شأنه أيضا إعطاء الموظفين العاملين في المكتبات الفرصة للتعلم خارج نطاق نشاطهم المعتاد. مسألة أخرى تتعلق بالتعليم الموجه للعاملين في المكتبات, فطالما أن المكتبات في حراك صوب المستقبل فلابد أن تكون احتياجات المدارس والكليات التي تدرس علم المكتبات جزءا من التخطيط الوطني لمستقبل المكتبات. وهذا قد يعني إعادة النظر في أهداف ومتطلبات الشهادات التي تعتمدها الكليات والبحث عن طرق جديدة لاعتماد شهادات موظفي المكتبة.
كما لابد من أدراك حقيقة أن المكتبات لا يمكن أن تعتمد فقط على الموظفين الذين يحملون شهادات في مجال علوم المكتبات, فأصحاب التخصصات الأخرى يستطيعون الإسهام في عمليات التخطيط والتنفيذ عندما يتعلق الأمر بمستقبل المكتبات. وهذا يعني إعادة تشكيل ما يقوم به الموظفون في المكتبات. فإذا كان خدمة المجتمع هو هدف المكتبة وله الأولوية ، ينبغي أن تجند المكتبات موظفين ذوي اختصاصات متعددة وتدريب الموظفين الحاليين الذين قد يكونوا في حاجة إلى مستوى مهارة أعلى للقيام بالتسهيل والتعليم، والتدريب، وتنظيم المشاريع.
القدرة على تحديد مسألة المرجع الحقيقي للسؤال والعثور على الجواب الصحيح قد تكون مهارة ذات قيمة محدودة في المستقبل. إذا كان التوسع التقني من الأولويات، وبالتالي يصبح من البديهي امتلاك جميع الموظفين المهارات التقنية، وليس موظفي تقنية المعلومات فقط، ولا نعنى التقنية التي تستخدمها المكتبة ولكن التقنية التي تجلب مستخدمي المكتبة إلى المكتبة. هذا بالإضافة الي مجموعة من المهارات عالية المستوى، مثل مهارات التعامل مع الآخرين والتواصل، وإدارة التغيير ، وإدارة المشاريع، والشراكة والتعاون، و خبرات خاصة في مجالات الشباب و خدمات رجال الأعمال... موظفو المكتبة بحاجة لفهم وقبول الأدوار الجديدة.
إعداد: هيـام حـايك- كاتبة بمدونة نسيــج
المصادر: http://connect.ala.org/node/219621