شهدت العقود الأخيرة تسارعاً كبيراً في نسق إنتاج المعرفة و انتشارها بفضل تطور تقنيات المعلومات و الاتصال الحديثة مما يجعل من التحول إلى المجتمع المعرفي خياراً استراتيجياً لأي بلد يريد الاستمرار في المشهد العالمي, ولطالما كانت الجامعات هي مصنع المستقبل، الذي ينتج الكوادر المؤهلة القادرة على الدفع بعجلة التنمية، ووضع مداميك البناء المعرفي، ورسم خارطة الطريق التي تمهد للتحول إلى المجتمع المعرفي, الذي يستهلك المعرفة وينتجها في ذات الوقت. هذا التحول يتطلب تحولاً في محور الممارسات التربوية في مؤسسات التعليم العالي عبر مجموعة واسعة من التخصصات وأساليب التعلم التي تتبنى الفكر الإنتاجي والابتكاري بدلاً من ثقافة الاستهلاك البسيط للمحتوى...
من الملاحظ أن هذا الفكر الإنتاجي والإبداعي تؤطره متغيرات تسيطر على الساحة الإعلامية بصورة واضحة خلال السنوات الاخيرة, حيث ثقافة "المشاركة الجماهيرية" Crowdsourcing و الذي يركز على توزيع المشكلة أو المهمة على مجموعة من الناس للمشاركة فيها, هذا المفهوم هو ما تقوم عليه الشبكات الاجتماعية و الإعلام الجديد حيث يتم طرح قضية, أو مهمة معينة من قبل فرد محدد أو مجموعة صغيرة و تبدأ في حشد الجمهور المؤيد و تجييشه من أجل إنجاح هذه القضية أو إنجاز هذه المهمة. كما أن "المحتوى الذي ينتجه المستخدم" User-generated content والمشاريع والمنتجات التي تتم من خلال التمويل الجماعي أو التمويل الجماعي Crowdfunding، غيرت من مفهوم صناعة المحتوى الجدير بالمشاهدة، لتصنع جيلا من منتجي المعرفة. هذه المتغيرات ساهمت في السنوات القليلة الماضية في تقديم الفرص لخلق حالة تعليمية نشطة تتخذ منحى التعلم العملي hands-on learning, والذي باتت تنظر إليه العديد من أقسام الجامعات الغير تقليدية كبوابة لدمج خبرات التعليم العملي hands-onlearningباعتبارها جزءا لا يتجزأ من المنهج الدراسي. الأمر الحتمي الذي لا يحتمل الجدل هو أنه لا خيار أمام مؤسسات التعليم العالي في ظل هذا المد التقني والإعلامي من الشروع في عملية تغيير لخططها ومناهجها ودوراتها التدريبية لتعكس أهمية الفكر الإنتاجي وأهمية إنشاء وسائل الإعلام، والتصميم، وتبنى المنحى الريادي للأعمال.
هناك اتجاه متزايد في الجامعات نحو مشاركة الطلاب من مختلف التخصصات في تصميم و إنشاء المحتوى التعليمي الذي يستحق نشره وتداوله باعتباره عملية إبداعية يستفيد فيها الطلاب مما هو متوافر لديهم وبين أيديهم وتعظمه، وتنظر للتحديات كفرص لإيجاد حلول إبداعية لها... المزيد من الكليات والجامعات والمكتبات تعمل على تطوير وتسخير البيئات وتسهيل الفرص وتوفير مساحات للإبداع, حيث يمكن للطلاب المعرفة والإبتكار معا، ودمج الأنشطة التي تركز على المحتوى المنتج كجزء من تعليمهم. هذا الاتجاه يزداد قوة ومن المحتمل أن يصل تأثيره الكامل كما يرى المحللون في حوالي ثلاث إلى خمس سنوات.
مساحات الابتكار أو ورش الإبداع والإنتاج Makerspaces (والمعروفة أيضا باسم hackerspaces) بدأت في الظهور في عام 2005, فهي أماكن مخصصة لابتكار حلول الاعمال, وتتمحور فكرتها في وجود حيز أو مكان تعاوني عام يجتمع فيه أناس ذو اهتمامات مشتركة، خاصة في مجالات علوم الحاسوب والتقنيات الرقمية أو أي فرع آخر من فروع المعرفة، ليتبادلو الخبرات ويطوروا ما يقومون به من نشاطات وينتجوا الابتكارات .
في السنوات القليلة الماضية، برزت ورش الابتكار الأكاديمية academicmakerspaces ومختبرات التصنيع fabrication labs في مجموعة متنوعة من التخصصات والأقسام داخل حرم الجامعة، بما في ذلك المكتبات. ولم يقتصر تجهيز هذه المساحات على الأدوات الحرفية التقليدية، ولكن تم تجهيزها أيضاً بالمعدات الرقمية مثل قاطع الليزر lasercutters، والمتحكمات الدقيقة microcontrollers ، والطابعات ثلاثية الأبعاد 3Dprinters, توافر هذه الموارد المكلفة حولت المختبرات الجامعية إلى فضاءات تشاركية حيث يمكن للطلاب العمل على المشاريع الموجهة ذاتيا، بالإضافة إلى المشاركة في إدارة وصيانة مرافق الجامعة.
بدأت تتضح القيمة والفائدة لهذه الأماكن والورشات التشاركية التعليمية كنوع ثوري للتعلم, يتم تقديمه بطرق جديدة مثيرة للاهتمام. على سبيل المثال يجرى حاليا في مختبر الإبداع MakerLabللعلوم الإنسانية في جامعة فيكتوريا، أبحاث تركز على humanities physical computing و التي تجمع ما بين المواد الرقمية والتناظرية من خلال إنشاء أنظمة تفاعلية. تساعد هذه البحوث التي تركز على الإبداع والإنتاج على تعزيز النمو والتطور في مجال العلوم الإنسانية الرقمية, حيث يستعين خبراء الانسانيات بالكمبيوتر والوسائل الرقمية في الأبحاث والتدريس والتصميم.
تيار مستمر من الطرق الجديدة للأفكار الإبداعية يتم تمويلها وإخراجها إلى حيز الواقع, والتي جعلت من طلاب الجامعات أكثر قدرة للسيطرة على تطوير أبحاثهم أكثر من أي وقت مضى. فمن خلال مواقع التمويل الجماهيري crowdfunding الطلاب يقودون المشاريع والتي قد تتعثر في بعض الأحيان في مرحلة المفهوم أو مرحلة النموذج, الآن باستطاعة الطلاب تقديم العديد من المشاريع في ظل هذه التسهيلات التي توفرها مؤسسات التعليم العالي.
مكتبات الجامعات ليست بمنأى عما يحدث, حيث لا يتوقف استضافة مكتبات الحرم الجامعي لمزيد من ورش الإنتاج والإبداع makerspaces فقط، ولكنها تستضيف إلى جانب ذلك الخدمات التي تدعم الإبداع والإنتاج، مثل الاستوديوهات ومعدات الفيديو، ومرافق التحويل الرقمي، وخدمات النشر. في كلية "دارتموث" DartmouthCollege ، يعكف الباحثون على استكشاف كيفية استخدام الفيديوهات التي ينتجها الطلاب, من أجل مزيد من التعلم وتقييم الأداء الأكاديمي للطالب من خلال جمع مختلف المهام التي تتضمنها صفحة المشاريع في موقع الكلية.
إعداد: هيـام حـايك- كاتبة بمدونة نسيــج