بالرجوع مئة عام للوراء وتخيل كيف كانت الجامعات آنذاك، لابد أن الصورة التي تحضرك هي السبورة السوداء، والمعلمون الذين يقفون في مقدمة القاعة، يقرءون مقتطفات من النصوص ويعلقون عليها، بينما يقوم الطلاب بنسخ الملاحظات كلمة بكلمة. هذا المشهد على ما يبدو لازال مألوفًا، ولازالت جامعات اليوم تحتفظ بالكثير من أوجه تشابه الملحوظة مع أسلافها.
هذا النموذج المتأصل ثقافيًا تم اختراقه بسبب جائحة كوفيد -19، والذي منع الطلاب من دخول قاعات المحاضرات منذ أواخر مارس. اضطرت الجامعات إلى التحول عبر الإنترنت، وبالرغم من أن الكثير من الطلاب يشعر بعدم الرضا عن سرعة وجودة التغييرات، إلا أن العديد من الخبراء يجمعون على أن التعلم عبر الإنترنت هو مفتاح مستقبل التعليم العالي.
يقول إيان دن Ian Dunn، عميد جامعة كوفنتري، " أن يقف شخص واحد في قاعة المحاضرات أمام 200-300 شخص وأن يتوقع منهم أن يتلقوا تعليم حقيقي وأن ويقبلوا هذه المعلومات دفعة واحدة كان أمرًا مثيرًا للسخرية وليس مقبولاً على الإطلاق، اليوم يمكن أن يكون هذا مقبولا عبر الإنترنت فقط، وهذا ما قامت به بالفعل لجامعتي، لذا أرى أنه لا ينبغي لنا العودة إلى المحاضرات، بشكلها التقليدي." كما ويرى دن أنه وعلى الرغم من أن الجامعات كانت تنقل ببطء بعضاً من مناهجها عبر الإنترنت لسنوات، إلا أنها تخلفت عن المكان الذي يريده طلابها أن يكونوا فيه - وأن أزمة فيروس كورونا منحت الجامعات فرصة قيمة للحاق بالركب.
التعليم عن بعد والتعليم عبر الإنترنت
من المهم التمييز بين التعلم عن بعد والتعليم عبر الإنترنت. فعادة ما يركز التعليم عن بعد على الطلاب غير التقليديين؛ كالعاملين بدوام كامل، أو العسكريين، والأفراد غير المقيمين في البلد نفسها، أو الأفراد الذين يعيشون في المناطق النائية والذين لا يستطيعون حضور محاضرات الفصل الدراسي العادية، ويعد هذا النوع من التعليم جزءًا مهمًا من العملية التعليمية، فيما يمكن أن يكون التعليم عبر الإنترنت ما نطلق عليه التعلم المدمج - حيث نتعلم أحيانًا باستخدام التقنيات ولكن في أحيان أخرى قد يكون من المهم أن نلتقي وجهًا لوجه.
هذا الأخير هو ما تعد به الجامعات الطلاب الذين يلتحقون به في سبتمبر القادم. من المحتمل أن يتضمن هذا النوع من التعليم مزيجًا من مقاطع الفيديو والقراءات التي يمكن للطلاب القيام بها في أوقات خاصة بهم، مع استكمالها بمناقشات جماعية صغيرة متباعدة اجتماعيًا في الحرم الجامعي. ولكن هذا لا يلغي إمكانية استكمال النقاش عبر برنامج زوم مثلا أو أي برنامج أخر يؤدى الغرض، فالتفاعل بين الطلاب وما يفعله الطلاب بالمفاهيم والأفكار هو الأهم.
يرى بعض المتخصصين في شؤون التعليم، أن الجامعات تخلفت عن الصناعات الأخرى من حيث الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وأن صناعة التكنولوجيا لم تُستثمر في التعليم بسبب الصورة النمطية للجامعة، وحيث يراها الكثيرون “بطيئة ومنظمة بشكل مبالغ فيه"، على الرغم من وجود فهم متزايد حول تحول الجامعة إلى مكان للابتكار والإبداع.
وقد تكون هذه الصورة النمطية فيها جانب من الصحة، حيث في فترة ليست بالبعيدة، كانت العديد من الجامعات مترددة في الإنفاق على التعلم عبر الإنترنت، وقد كانت هذه الجامعات على استعداد لبناء مبنى جديد بتكلفة 100 مليون دولار، لكنها ليست مستعدة أن تتقبل فكرة رؤية حرم جامعي رقمي كاستثمار على نطاق مشابه، وهو الأمر الذي كان يجب التخطيط له، وإدراجه ضمن الخطط الاستراتيجية للجامعة في مراحل سابقة وخاصة أن الرقمنة والتعليم الإلكتروني كان قد بدا ينتشر في بداية القرن الحالي، وهي فترة ليست قليلة نسبياً.
رؤية مستقبلية لتعليم المستقبل
مع محاولات تحسين تجربة التعلم عبر الإنترنت والتي تعمل عليها الآن معظم الدول، يتوقع الخبراء تحقيق مزايا نوعية للطلاب، ما كان التعليم التقليدي ليقدر على الإتيان بها وخاصة إذا ما نظرنا لإمكانيات التعليم عبر الإنترنت على استيعاب الطلاب المعاقين بشكل أفضل منذ البداية، وعدم تركهم خارج الركب. كذلك من المتوقع أن بعض الدورات التدريبية عبر الإنترنت يمكن أن تصبح أكثر تركيزًا على الحياة المهنية، لأن التعلم عبر الإنترنت هو "تجربة معاملات أكثر"، كما وهناك فرصة كبيرة لزيادة التعاون بين الجامعات، والتي قد تختار تجميع الموارد بحيث "لا يتعين على كل جامعة على سبيل المثال تدريس دورة "مدخل إلى علم النفس 101 " الخاصة بها ، ويمكنها بدلاً من ذلك التركيز على ما يجعلها مميزة.
التحدي الآخر الذي تواجهه الجامعات، خاصة في سياق التحول السريع الذي يحدث نتيجة لفيروس كورونا، هو الضغط على أعضاء هيئة التدريس، إذا ما نظرنا إلى أن التعليم عبر الإنترنت هو طريقة عمل مختلفة تمامًا مقارنة بالدخول إلى الفصل الدراسي وإلقاء المحاضرات والتحدث مع الطلاب. التعليم عبر الإنترنت هو أمر يتطلب جهدًا هائلاً من المدرسين.
في الواقع، ما بدأ أعضاء هيئة التدريس في اكتشافه هو "عدم وجود دليل تجريبي يقول أن التدريس في الفصول الدراسية يفيد الطلاب (مقارنة بالبدائل) من منظور التحصيل التعليمي" ، وهو اكتشاف من مركز دراسة التعلم والأداء في جامعة كونكورديا في كندا، وحيث بدأ أعضاء هيئة التدريس بتجربة التحديات الشخصية والعمل الجماعي الصغير والتعلم القائم على المشروعات وتسجيل مقاطع الفيديو القصيرة. بدأ أعضاء هيئة التدريس كذلك في استكشاف علم أصول التدريس وعلم وفن التدريس على أساس التصميم.
وفي هذا السياق يشير بحث قام به موقع The conversation إلى أن تفضيلات الطلاب للتعلم عبر الإنترنت بدلاً من المحاضرات وجهًا لوجه لم تجد أي اختلافات. حتى عندما يبذل المعلمون جهودًا هائلة لإنشاء فصول دراسية مقلوبة، حيث يقدمون مقاطع فيديو عبر الإنترنت قبل ورش العمل التفاعلية. فالواضح أنه لا توجد فروق في رضا الطلاب لذلك لا يمانع الطلاب فيما إذا كانوا يتعلمون عبر الإنترنت أو وجهًا لوجه.
ولكن في النهاية، لابد من إدراك أن الطلاب يشعرون أيضًا بأنواع جديدة من الضغط، مما يتوجب عليهم وعند بدء الدورات عبر الإنترنت النظر في احتياجاتهم الصحية والنفسية، بما في ذلك مقدار الوقت الذي يريدون قضاءه وجهًا لوجه. وهذه مسؤولية تقع على عاتق الجامعات أيضًا، لأنه على الرغم من فوائد التعلم عبر الإنترنت، لا يزال من الضروري إيجاد طرق مبتكرة لمساعدة الطلاب على التعرف على الأشخاص على المستوى الإنساني.