على الرغم من تفاوت تأثير الذكاء الاصطناعي على الصناعات المختلفة ، إلا أنه من المهم أن تُعد الجامعات طلابها لأية تغييرات قد تحدث في سوق العمل. فمن الواضح أن الذكاء الاصطناعي يؤثر على قطاع التعليم، وبما يمكنه من تحقيق استجابات مستنيرة ومناسبة.
وفي هذا الصدد، بدأ الذكاء الاصطناعي في إنتاج حلول تعليمية جديدة تخضع الآن للاختبار في سياقات مختلفة، الأمر الذي شجع مجلة SpringerOpen على دعوة المهتمين والعاملين في مجال الذكاء الاصطناعي لتقديم أوراق بحثية ، تهدف إلى دراسة التأثير المحتمل والفعلي للذكاء الاصطناعي (AI) في بيئة التعليم العالي.
الأمر الذي يدعو للمفاجأة أن عدد الأوراق البحثية المستوفية للمعايير البحثية كان 23 مقالة، فقط!!!. هذا الرقم الصغير في حد ذاته كان أمراً مفاجئًا ، نظرًا للصورة الإعلامية التي تُظهر اهتمام التعليم العالي بتبني إمكانيات الذكاء الاصطناعي. والأكثر مفاجأة أنه، وبعد المراجعة ، تم اعتبار أربع فقط من المقالات الـ 23 مناسبة للنشر ، بناءً على جودتها الأكاديمية، وقد اخترنا في هذا المقال ، بعضاً مما ورد في هذه المقالات كأرضية للبناء عليها...
الذكاء الاصطناعي والتعليم العالي: الفجوة بين التوقعات والواقع
يرتبط مستقبل التعليم العالي ارتباطًا وثيقًا بالتطورات التقنية الجديدة والذكاء التعاوني بين البشر والآلات.. في هذا السياق يفتح الذكاء الاصطناعي أمام التعليم العالي إمكانيات وتحديات جديدة على مستوى التعليم والتعلُم.
يتم التعامل مع المقترحات الخاصة بتطبيق الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي على مستويين:
الأول المستوى الاستراتيجي أو المؤسسي؛ وهنا يتم التركيز على تحليلات التعلم، فمن الناحية التكنولوجية، تتعامل تطبيقات الذكاء الاصطناعي مع البيانات الضخمة والإحصاءات والتعلم الآلي من أجل معالجة مشاكل اختيار الطلاب، والانقطاع عن الدراسة واتجاهات السلوك الجماعي .
تقوم هذه التطبيقات بتحليل البيانات كوسيلة للتنبؤ وإعادة توجيه الاستراتيجيات لما هو في صالح مستقبل الطلاب.
تتوفر العديد من الأوراق البحثية في هذا المجال ، ومن المحتمل أن تزداد أهمية هذا المجال في مؤسسات التعليم العالي في العقود القادمة، في حال تم اتخاذ إجراءات مدروسة من شأنها تحسين عملية جمع البيانات، وتطبيق سياسات تحقق الاستخدام الأمثل لهذه البيانات
أما المستوى الثاني فيتعلق مباشرة بعملية التعليم والتعلم. تركز الأبحاث على إمكانيات الذكاء الاصطناعي، وقدرته على تسهيل أو حتى إدارة عملية التدريس والتعلم نفسها. تشتمل هذه المنطقة بشكل أساسي على مساعدي الذكاء الاصطناعي مثل روبوتات المحادثة بالإضافة إلى تقنيات لتخصيص التعلم وتكييفه مع خصائص أو احتياجات معينة للمجموعات أو الأفراد..
لو نظرنا إلى الواقع سنجد أن الذكاء الاصطناعي ينتشر على نطاق واسع في بعض القطاعات ، إلا أنه من حيث تأثيره المباشر على التدريس والتعلم، سنجد أنه تم الوعد بالكثير ، ولكن حتى الآن ، تم تحقيق القليل. ونجد هذا الطرح واضحاً في آراء وكتابات العديد من الباحثين والكتاب والخبراء في المجال ،على سبيل المثال:
يرى عالم الكونيات السويدي الأمريكي ماكس تيجمارك Tegmark من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أننا لم نصل بعد إلى مستوى الذكاء الاصطناعي الشمولي، وحيث تتطابق إمكانيات المعالجات الآلية مع القدرات المعرفية للبشر. يستعرض تيجمارك في كتابه الذي صدر بعنوان " الحياة 3.0: أن تكون إنسانًا في عصر الذكاء الاصطناعي" المواقف المختلفة لاحتمالية تطوير الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب، ويذكر أنه لا يوجد أي قانون في الفيزياء يمنع ذلك إلا أن تحديد تاريخ معين أمر صعب.
يشير Bostrum (2017) إلى أننا قد تحملنا ما يعرف بانتكاسة الذكاء الاصطناعي "AI Winter" حيث عانى أنصار الذكاء الاصطناعي من فقدان المصداقية.
يرى إيلون ماسك Elon Musk الرئيس التنفيذي لشركة Tesla أن الذكاء الاصطناعي (AI) يشكل "تهديدًا وجوديًا" للبشرية وأن البشر قد يحتاجون إلى الاندماج مع الآلات لتجنب أن يصبحوا "قطط منزلية" لروبوتات ذكية .
عالم الفيزياء النظرية ستيفن هوكينج، يرى أن الذكاء الاصطناعي سيكون "إما أفضل أو أسوأ شيء للبشرية".
الباحث الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي أندرو نغ Andrew Ng يرى أنه على الرغم من اتساع تأثير الذكاء الاصطناعي ، لا تزال أنواعه التي يتم نشرها محدودة للغاية. تكما ويرى أن كل التقدم الأخير للذكاء الاصطناعي يتم من خلال نوع واحد ، حيث يتم استخدام بعض بيانات الإدخال (أ) لتوليد بعض الاستجابة البسيطة (ب) بسرعة.
ومع كل هذه الآراء السابقة، إلا أنه كان هناك حراك ملحوظ للذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة وخاصة فيما يتعلق بتطوير الذكاء الآلي والتعلم العميق والبنى المعرفية ، وهناك من يواصلون التنبؤ بمستقبل أكثر إشراقًا للذكاء الاصطناعي في جميع قطاعات المجتمع، بالرغم من أنه على أرض الواقع هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى حدوث تقدم كبير في تطبيق الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد في التعليم العالي، باستثناء تحليلات التعلم Learning Analytics ، وهي علم حديث تأسس عام 2010 ويقوم على قياس وتجميع وتحليل وتقديم التقارير حول المتعلمين من اجل تفهم وتفعيل البيئة التي يتم فيها التعلم.
في المقابل يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي يتقدم حاليًا بوتيرة متسارعة ، وهذا بالفعل يؤثر على الطبيعة العميقة للخدمات داخل بيئة التعليم العالي. على سبيل المثال، تستخدم الجامعات بالفعل شكلاً أوليًا من الذكاء الاصطناعي، وهو كمبيوتر IBM العملاق واتسون. يُستخدم IBM Watson في مجال الطب لتشخيص الأمراض وتحديد أفضل العقاقير للسرطان ويساعد في تطوير وتحليل الجينات والحمض النووي. كما يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية في مجال القانون والقضاء وإصدار الأحكام. يستخدم IBM Watson أيضًا تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل كميات كبيرة جدا من البيانات وخصوصًا الأنواع المعقدة منها، وله القدرة أيضًا على تحليل البيانات المحيطة به
لماذا لم يحرز الذكاء الاصطناعي تقدماً ملحوظاً في بيئة التعليم العالي ؟
يرى بعض الباحثين في هذا المجال أن الكثير مما يسميه الناس "الذكاء الاصطناعي" هو في الحقيقة تحليلات البيانات ، حيث تساعد برامج التحليل الذكية الأشخاص على التفاعل والتعامل مع العالم الرقمي المتزايد الذي نعيش فيه والكميات الهائلة من البيانات التي تولدها. كما يرى Steve Wheeler أن هناك سبب آخر وراء تأثير الذكاء الاصطناعي الضئيل حتى الآن على التدريس والتعلم في التعليم العالي وهو أن التعليم يميل عمومًا إلى التشكك فيما يتعلق بالتقنيات الجديدة. إن عدم الاستعداد لتحمل المخاطر، أو تبني ابتكارات جديدة ، ونقص التمويل لمت هو مختلف عن الأساليب التقليدية في التدريس ، يعملان على منع تبني التقنيات الجديدة في جميع قطاعات التعليم والتعلم والتطوير. يحتاج العديد من المعلمين إلى الاقتناع بأن الفكرة الجديدة يمكن أن تثري أو توسع نتائج وخبرات التعلم ، لذلك تظل قطاعات التعليم متحفظة للغاية تجاه التقنيات الجديدة.
أخيرًا ، تركز معظم ما يسمى بتطبيقات الذكاء الاصطناعي للتدريس والتعلم اليوم بشكل كبير على عرض المحتوى واختبار الفهم والإدراك. فمعظم تطورات الذكاء الاصطناعي للتعليم والتعلم - أو على الأقل الأوراق البحثية - هي من قبل علماء الكمبيوتر ، وليس المعلمين. ونظرًا لأن الذكاء الاصطناعي يميل إلى التطوير من قبل علماء الكمبيوتر ، فإنهم يميلون إلى استخدام نماذج التعلم بناءً على كيفية عمل أجهزة الكمبيوتر أو شبكات الكمبيوتر. نتيجة لذلك ، تميل تطبيقات الذكاء الاصطناعي هذه إلى اعتماد نموذج تعليمي سلوكي للغاية.
بشكل عام ، العديد من الذين يطبقون الذكاء الاصطناعي في مجال التدريس والتعلم في التعليم العالي، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى خلفية في علوم الكمبيوتر، لم يدركوا أو يقبلوا أن التعلم هو عملية تنموية وذات بناء تراكمي، وبدلاً من ذلك فرضوا طريقة تدريس محددة تعتمد على النظرية السلوكية والموضوعية التي لا تمثل بشكل جيد تعقيدات العملية التعليمية. وبالتالي فإن اختبار اكتساب المعرفة في شكل أجزاء صغيرة من الذاكرة أو الفهم هو أساس ضعيف للتخصيص ، والتعليم الذكي ، وتقييم المتعلم.
يعتقد معظم المعلمين أنه لتطوير المهارات الفكرية عالية المستوى، مثل التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات والمهارات العاطفية - المهارات التي تشتد الحاجة إليها في العصر الرقمي – نحتاج إلى نهج بنائي أكثر تركيزًا على المتعلم.
تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي للتدريس والتعلم حتى الآن قد ركزت بشكل أكبر على مستويات التعلم "الأساسية" مثل الحفظ واختبار الفهم ، فإن التقنيات الأخرى مثل المحاكاة والتعلم القائم على الألعاب والواقع الافتراضي قد حققت نجاحًا أكبر في مهارات التدريس، وهي بالفعل تركز على حل المشكلات والتفكير النقدي والإبداع.
ما الذي يجب القيام به لجعل الذكاء الاصطناعي أكثر صلة بالتعليم والتعلم في مجال التعليم العالي؟
إن الاستخدام الحالي لتحليلات التعلم والذكاء الاصطناعي في مجال التعليم، يتم فقط في مرحلة أولية ، ويرجع ذلك أساسًا إلى نقص الطلب من المؤسسات التعليمية. عند مواجهة التحولات المزعزعة المحتملة التي قد تفيد التعليم العالي ، سيكون من الضروري فهم هذه الاضطرابات ليس فقط من خلال خصوصية الذكاء الاصطناعي ، ولكن أيضًا من خلال فهم أكثر شمولاً وتنوعًا لظاهرة التدريس والتعلم، حيث لا يزال تنوع وجهات النظر أحد أقوى الاستراتيجيات للتعامل مع التحديات والفرص التي تنتظرنا.
المثير للاهتمام ، أنه عند استكشاف السؤال المتعلق بمدى قدرة الذكاء الاصطناعي على التغلغل في جدران التعليم العالي، يتم استكشاف هذا السؤال بشكل أساسي من قبل علماء الكمبيوتر وخبراء البيانات والمعلوماتية ومهن العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات. هذا يجعلنا نسأل: أين المعلمون؟ يبدو أن معظم الأبحاث حول الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي قد تم إجراؤها من قبل علماء الكمبيوتر وليس من المستغرب أن ينصب تركيزهم على الأدوات والخوارزميات وصلاحيتها وتطبيقها ، بدلاً من التأثير على نتائج التعلم.
وفي النهاية، لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به للجمع بين مجتمعات المعلمين والخبراء من المجالات الأخرى ذات الصلة مثل المعلوماتية الاجتماعية وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والمحامين وعلماء الأنثروبولوجيا ومجالات المعرفة الأخرى التي تمثل العلوم الإنسانية والاجتماعية. كما أنه ومن المهم أن ندرك أنه في حال أردنا تحقيق الفائدة من الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم، فسوف يتطلب ذلك تقوية العلاقة بين مطوري الذكاء الاصطناعي والخبراء في علوم التعلم، وإشراك المتعلمين. الذكاء الاصطناعي حتى الآن لا يساعد في تطوير المهارات العليا لدى المتعلمين. ونظراً لأن جزءاً كبيراً من أسباب هذه المشكلة ، هو نتيجة لعدم المشاركة الفعلية للمعلمين والمتعلمين فسوف يتم مناقشة ذلك بإسهاب في مقالة لاحقة.