حين تولّى ساتيا ناديلا قيادة مايكروسوفت عام 2014، لم يبدأ رحلته في إعادة بناء الشركة بإطلاق منتجات جديدة أو تحديث الأنظمة التقنية، بل بدأ من الداخل، من خلال اختيار نقطة انطلاق مختلفة تمامًا: الثقافة المؤسسية.
أدرك ناديلا أن أكبر عائق أمام التحول الرقمي لم يكن غياب التكنولوجيا، بل غياب "عقلية النمو" والانفتاح على التغيير. هذا التحول الثقافي لم يكن مجرد خطوة تمهيدية، بل كان جوهر النجاح الذي حققته مايكروسوفت في عصرها الجديد. فقد أثبت ناديلا أن القيادة الرقمية الحقيقية لا تكمن في اقتناء أحدث الأدوات التكنولوجية فحسب، بل في بناء رؤية استراتيجية تجمع بين التكنولوجيا والإنسان، والأنظمة والقيم.
من خلال تعزيز ثقافة التعاون والابتكار، تمكنت مايكروسوفت من دمج التكنولوجيا في صميم عملياتها، مما مهد الطريق لتحقيق الريادة في سوق شديد التنافسية. هذا النهج يُبرز أهمية الربط بين التحول الثقافي والتطبيقات التكنولوجية لضمان استدامة التغيير.
وفي سياق تسارع الابتكارات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة الكمومية، يتضح أن مجرد إضافة هذه التقنيات على هامش العمليات المؤسسية لم يعد كافيًا. فالقيادة الرقمية تتطلب دمج هذه التقنيات منذ البداية في الهياكل المؤسسية والعمليات اليومية، بل وفي صياغة الرؤية المستقبلية للمؤسسة. هذا الدمج لا يتحقق إلا من خلال إعادة تصميم طريقة التفكير في اتخاذ القرارات وبناء الفرق، مما يضمن أن تكون التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من هوية المؤسسة وقيمها.
اليوم، تتجاوز القيادة الرقمية مجرد المعرفة التقنية لتصبح دعوة لإعادة التفكير في كيفية تشكيل الفرق، تصميم الخدمات، وتحقيق الأثر المستدام. إنها رحلة تبدأ من تحول عميق في العقلية، يترجم إلى بناء منظومة رقمية ذكية تدفع المؤسسة نحو الريادة. من خلال هذا النهج المتكامل، يمكن للقادة تحويل التحديات التكنولوجية إلى فرص للنمو والابتكار، مما يضمن استدامة النجاح في عالم دائم التغير.
التحول الرقمي الناجح: عندما تسبق الرؤية التكنولوجيا
قيادة الرقمية ليست مجرد قرار بتطبيق أدوات تقنية أو برمجيات حديثة، بل هي تحول جوهري في طريقة تفكير المؤسسات وصياغة استراتيجياتها، ينطلق من رؤية واضحة ومتماسكة تربط بين الإمكانات التكنولوجية وتحقيق أهداف ذات أثر اجتماعي، ثقافي، أو تعليمي. هذه الرؤية ليست مجرد خطة تقنية، بل هي بوصلة فكرية توجه المؤسسة نحو إعادة تشكيل ثقافتها التنظيمية، وتطوير نهج مستدام يجعل التكنولوجيا وسيلة لخدمة المجتمع بدلاً من أن تكون غاية بحد ذاتها. بدون رؤية تجيب على أسئلة مثل: "لماذا نتحول رقميًا؟"، "ما القيمة التي نسعى لخلقها؟"، أو "كيف ستعزز التقنية تأثيرنا؟"، قد تصبح الأدوات الرقمية أعباء تشتت الموارد بدلاً من تمكين المؤسسة. على سبيل المثال، منظمة "Worldreader"، من خلال مشروع BookSmart، صيغت رؤيتها لتعزيز القراءة في المجتمعات منخفضة الدخل. ركزت على توفير مكتبة رقمية تضم آلاف الكتب للأطفال (3-12 سنة) عبر هواتف ذكية بسيطة، بمحتوى محلي يناسب المدارس، المنازل، ومخيمات النزوح. هذه الرؤية، التي سبقت أي قرار تقني، ضمنت توسع المشروع واستدامته، حيث وصل إلى ملايين القراء.
البنية الذكية: كيف نبني أنظمة رقمية تفهم واقعنا؟
كثير من مشاريع التحول الرقمي تفشل لأنها تتسرع في تبني حلول تقنية جاهزة قبل استيعاب الواقع العملي للمؤسسة. بناء نظام رقمي فعّال يتطلب صورة دقيقة مبنية على تحليل عميق للعمليات اليومية، تجارب الموظفين، وتحديات الفرق والمستفيدين، بعيدًا عن افتراضات نظرية غير متصلة بالسياق الحقيقي. التحول الرقمي الناجح يبدأ بفهم شامل لكيفية عمل المؤسسة فعليًا، بما يشمل ديناميكيات سير العمل، نقاط الضعف، والاحتياجات الفعلية لأصحاب العلاقة والارتباط
إشراك الموظفين والمستفيدين في التحليل يكشف تحديات خفية، مثل فجوات التواصل أو العوائق التشغيلية، مما يحسن جودة الأنظمة الرقمية ويقلل مخاطر الفشل من خلال تصميم حلول دقيقة تلبي التوقعات. هذا النهج يعزز الكفاءة ويضمن استدامة الأنظمة. بدون هذا الفهم، تصبح الأنظمة غير عملية، مما يزيد التعقيد بدلاً من تبسيط العمليات. أحد الأمثلة على هذا التوجّه يظهر في مبادرة eArchiving، المدعومة من برنامج Digital Europe، والتي ركزت على فهم احتياجات المؤسسات الأوروبية لأرشفة البيانات الرقمية. انطلقت المبادرة بدراسة دقيقة للعمليات الأرشيفية اليومية، واستكشاف التحديات التي تواجه المستخدمين مثل تنوع الصيغ، مشكلات التوافق، وصعوبة استرجاع الملفات بمرور الزمن. بناءً على هذا التحليل، تم تصميم مواصفات أرشفة مرنة تتكيف مع الواقع التشغيلي، وتراعي اختلاف قدرات المؤسسات من حيث البنية التحتية والخبرات.
في السياق العربي، تقوم "نسيج للتقنية" بدور فاعل في دعم المؤسسات في فهم عملياتها وتحسينها قبل أي تدخل رقمي. في هذا المجال، تقدّم نسيج أدوات تحليل مرئية ومبسطة تساعد المؤسسات العاملة في التعليم، الثقافة، والتنمية على رسم خريطة واقعية لسير العمل، وتحديد نقاط الضعف والفرص. وفي مجال الأرشفة الإلكترونية تحديدًا، تعمل نسيج على تصميم حلول أرشفة رقمية مرنة تستند إلى احتياجات المؤسسات المحلية، مع التركيز على التوافق مع المعايير الدولية، وتعدد الصيغ، وسهولة الاستخدام.
التجربة الرقمية الجديدة: عندما تذوب التقنيات في الحياة اليومية
التحول الرقمي لم يعد يقتصر على رقمنة الخدمات، بل أصبح دمج تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، والحوسبة الكمومية داخل بنيات المؤسسات، لتتماشى مع احتياجات الناس اليومية وواقع العمل. العمل الرقمي اليوم يتطلب أن تكون هذه التقنيات جزءًا من نسيج التجربة، لا أدوات منفصلة تُضاف في النهاية.
الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم في قلب القرارات وتحديد الأولويات، حيث يمكننا رؤية ذلك في مبادرة Ayushman Bharat Digital Mission في الهند، التي تبنت إنشاء هوية رقمية صحية تربط البيانات الطبية للحظة، مع دعم تشخيصي باستخدام نماذج .
أما إنترنت الأشياء، فهو الجسر بين البيانات والواقع المادي. فمثلاً، في تجربة SchoolAIR بمدارس شمال البرتغال، تم نشر حساسات IoT تجمع بيانات بيئية (مثل ثاني أكسيد الكربون والرطوبة والحرارة) داخل الفصول. هذه البيانات أظهرت تجاوز مستويات CO₂ الحدود الموصى بها خلال الحصص الدراسية، مما أدى لتحسين التهوية وتعديل جداول الفتح والإغلاق
أما الحوسبة الكمومية، فقد بدأت تتبلور عمليًا. فقد تعاونت فولكسفاجن مع D‑Wave لاختبار استخدام خوارزميات كمومية لتوجيه حركة حافلات في مؤتمر بمدينة لشبونة، ونجحت في تحسين تدفق المرور في ظروف زمنية حقيقية .
وفي هذا المشهد، تعمل "نسيج للتقنية" على تمكين المؤسسات العربية لتحقيق الاستفادة التطبيقية من هذه التقنيات، في مجال الذكاء الاصطناعي، تقوم نسيج للتقنية بخطوة ملموسة نحو التمكين المجتمعي الرقمي عبر تطوير نموذج لغوي عربي مفتوح المصدر، يحمل اسم "نون"، يعتمد على مئات الملايين من المعاملات التدريبية. هذا النموذج – الذي أطلقته نسيج في يونيو 2023 – تم تطويره بهدف دعم المطورين والمؤسسات العربية على بناء تطبيقات ذكية مثل الدردشات الآلية، التوليد التلقائي للمحتوى، وتحليل المشاعر باللغة العربية بدقة عالية.
القيادة الرقمية كفن معماري: التفكير في المنظومة وليس في الأداة
في كثير من المؤسسات، تُقاس الجهود الرقمية بعدد الأدوات والتقنيات المعتمدة، بينما تظل البنية المؤسسية الأساسية مفككة أو قديمة. هذه المقاربة تُفرز أنظمة متراكبة لا تتكامل، ولا تُحقق نقلة حقيقية في طريقة العمل. القائد الرقمي الواعي لا يضيف تقنية جديدة فوق نظام مترهّل، بل يعيد تخيّل البنية المؤسسية ككل، من البنية التحتية إلى تجربة المستخدم، ومن السياسات إلى تدفق البيانات. هذا ما تؤكده تحليلات McKinsey في تقريرها "Leading in the Digital Era"، حيث تشير إلى أن التحول الرقمي الحقيقي لا يُبنى على التطبيقات فقط، بل على إعادة هيكلة الأنظمة والقرارات والمهارات داخل المؤسسة. تجربة إستونيا تقدّم درسًا مهمًا في هذا المجال. فهذه الدولة الصغيرة لم تنظر إلى الرقمنة كواجهة تقنية، بل كمنظومة متكاملة. أنشأت الحكومة منصة X-Road، التي ربطت جميع المؤسسات الحكومية تحت بنية رقمية موحّدة، تُستخدم فيها البيانات مرة واحدة وتنتقل تلقائيًا حيثما احتاجها المواطن أو الموظف. يستطيع المواطن أن يُصوّت، ويؤسس شركة، ويتابع ملفه الصحي من المنزل دون زيارة أي دائرة حكومية. لم يكن هذا التحول ممكنًا لولا التفكير المعماري الرقمي منذ البداية، حيث اعتُمدت مرونة التشغيل، وشفافية البيانات، وإعادة تعريف علاقة المواطن بالدولة.
قابلية النمو وبنية القرار الذكي: ملامح القيادة الرقمية المتكاملة
حين تسلّم Satya Nadella دفة القيادة في مايكروسوفت عام 2014، لم تكن العقبة الكبرى تقنية، بل ثقافية. لم تكن المسألة غياب أدوات أو موارد، بل غياب عقلية تنظيمية تشجّع على التعلّم وتحتضن التغيير. مايكروسوفت، رغم مكانتها الريادية، كانت مثقلة بثقافة تنافسية داخلية تركّز على الإنجاز الفردي وتخشى الفشل. ومن هنا، اختار Nadella أن يبدأ من الجذور: لا من المنتج ولا من السوق، بل من ثقافة المؤسسة نفسها.
بحسب تحليل Harvard Business Review، ركّز Nadella على ترسيخ ما أسماه "عقلية النمو" (Growth Mindset)، وهو المفهوم الذي استلهمه من أبحاث Carol Dweck. سعى إلى تحويل بيئة العمل من "من يعرف أكثر؟" إلى "من يتعلّم أكثر؟". أعاد صياغة قيم الشركة، وأطلق تدريبات داخلية قائمة على الإنصات، الفضول، والتعاطف، وأدخل مفاهيم مثل "التعلم الجماعي" و"القيادة عبر التواضع". كما غيّر طريقة تقييم الموظفين لتُركّز على التقدم والتجريب، وليس فقط الإنجاز الثابت.
هذه التحوّلات لم تكن شكلية، بل بنيوية. فبفضل هذه العقلية، أصبحت مايكروسوفت أكثر انفتاحًا على التعاون، وأطلقت شراكات كانت تُعتبر مستحيلة، مثل التكامل مع Amazon AWS أو دعم نظام Linux. كما تحسّن الأداء المالي للشركة بشكل ملحوظ، ليس فقط بسبب تطوير منتجات جديدة، بل لأن المؤسسة ككل أصبحت أكثر مرونة وتعلّمًا واستجابة للتغير.
عقلية النمو التي قادها Nadella لم تكن مجرّد تدريب أو حملة داخلية، بل كانت إعادة هندسة للثقافة القيادية. من خلالها، تحولت مايكروسوفت إلى منظمة تُدار بالثقة، تُقدّر التجريب، وتبني قراراتها على تعلّم مستمر. وهذا ما يتقاطع مع تحليلات McKinsey حول القيادة الرقمية، التي ترى أن عقلية التعلّم المستمر، المصحوبة ببنية قرار ذكية تستند إلى البيانات والمرونة، هي جوهر التحوّل الرقمي الحقيقي.
الدرس هنا ليس تقنيًا، بل ثقافي واستراتيجي: القيادة الرقمية تبدأ من الداخل، من بناء بيئة آمنة للتعلّم، ومن عقلية مؤسسية ترى في كل تحدٍ فرصة للنمو. لا يمكن لأي أداة ذكية أن تحقق أثرًا مستدامًا دون وجود بيئة تنظيمية تحتضن الخطأ كجزء من التعلم، وتشجع اتخاذ القرار التشاركي، وتبني قدرات الأفراد كجزء من منظومة القرار.
ضمن السياقات المؤسسية في المنطقة العربية، تعمل نسيج للتقنية على تهيئة البيئة المناسبة لبناء ثقافة رقمية مرنة داخل المؤسسات، من خلال برامج استشارية وتدريبية تركز على تمكين الفرق من التعلّم التجريبي، وتبني مسارات تطوير تشاركية قائمة على التحليل والمراجعة المستمرة. تمكّن نسيج الفرق التنفيذية من تصميم آليات لاتخاذ القرار تعتمد على البيانات، وتعزز قدرة الفرق على خوض تجارب رقمية دون الخوف من الفشل. كما تدعم المؤسسات في بناء أطر تقييم جديدة تُركّز على التطور الجماعي، وتقدير المبادرة، وتحويل المعرفة الفردية إلى معرفة تنظيمية. في هذا السياق، تسهم نسيج في ترسيخ عقلية النمو كبنية ثقافية داعمة للتحول الرقمي الحقيقي، لا كمفهوم نظري، بل كممارسة يومية داخل فرق العمل.