مدونة نسيج

المشهد الحالي للمكتبات العربية: بين الأزمات البنيوية وفرص التحوّل والابتكار

Written by هيام حايك | 01/12/2025 10:39:29 ص

رغم ما تمرّ به المؤسسات الثقافية في العالم العربي من أزمات متراكمة، تعود المكتبات اليوم إلى الواجهة من جديد، لا بوصفها أماكن لحفظ الكتب فقط، بل باعتبارها فضاءات حيّة للمعرفة والانتماء. نحن نعيش لحظة تحوّل سريعة؛ فالتكنولوجيا تعيد تشكيل عادات القراءة، والإنترنت يفتح أبوابًا جديدة للتعلّم، والأجيال الناشئة لم تعد تنظر إلى الكتاب الورقي بالطريقة نفسها التي نظرت بها الأجيال السابقة. في هذا السياق، تجد المكتبة العربية نفسها اليوم أمام خيار حاسم: هل تبقى مبنى تقليديًّا صامتًا، أم تتحوّل إلى مساحة نابضة تخاطب احتياجات الناس المتغيّرة؟ فالمكتبة اليوم يمكن أن تكون مختبرًا للمهارات، ومركزًا للقاء والتفاعل، ومساحة للتعافي النفسي والاجتماعي، ومنصّة رقمية للتعلّم المفتوح، وبيتًا حيًّا للذاكرة والثقافة.

وحين نتأمل “واقع المكتبات العربية”، فإننا في الحقيقة نطرح سؤالًا أوسع: هل تتسع فرص الوصول إلى المعرفة في مجتمعاتنا، أم تضيق؟ فطريقة تعاملنا مع المكتبات اليوم ستكون مؤشرًا مهمًّا على شكل المستقبل الذي نريده لأبنائنا وبناتنا.

مشهد المكتبات العربية اليوم: خريطة واقع وتحولات نوعية

عند النظر إلى الخارطة العربية الواسعة، يتّضح أن واقع المكتبات ليس واحدًا، بل هو لوحة مركّبة تتفاوت فيها التجارب من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى داخل البلد نفسه. فهناك دول نجحت في بناء نماذج مكتبات حديثة تمتلك بنية رقمية قوية، بينما لا تزال مكتبات أخرى تعمل بموارد محدودة، تكافح لتلبية أبسط احتياجات روادها.

تظهر المكتبات الوطنية في مقدمة المؤسسات الأكثر استقرارًا، فهي غالبًا تمتلك أرشيفًا واسعًا وخبرات تراكمت عبر عقود، لكنها ما زالت تحتاج إلى تحديث أنظمة الرقمنة وإتاحة المحتوى للجمهور بسهولة أكبر. أما المكتبات العامة فتبدو هي الأكثر تأثرًا بالواقع الاجتماعي والاقتصادي؛ ففي بعض المدن تُعدّ المكتبة مركزًا مجتمعيًا حيًّا، وفي مدن أخرى تتحوّل إلى مبنى شبه مهجور لا يجد التمويل الكافي ولا الطاقم المؤهّل.

وفي الجانب الجامعي، تبدو المكتبات أكثر تقدّمًا نسبيًّا؛ فهي تستفيد من ارتباطها بالمؤسسات الأكاديمية، ومن حاجتها إلى خدمة الطلاب والباحثين. ومع ذلك، لا تزال الفجوة واضحة بين الجامعات الكبرى المزوّدة بمنصات إلكترونية متقدمة، والجامعات الأصغر التي تعتمد على مجموعات ورقية محدودة وتواجه تحديات في الوصول إلى قواعد البيانات العالمية.

وعلى مستوى المكتبات المدرسية، ما يزال الحضور ضعيفًا ومتفاوتًا؛ ففي بعض الدول تُدار المكتبات كجزء من العملية التعليمية، بينما تفتقد مدارس أخرى مكتبات من الأساس أو تعتمد على غرف صغيرة لا تؤدي وظيفة معرفية حقيقية.

إن هذه الصورة الموزّعة تكشف حقيقة أساسية: المكتبات العربية لا تعاني من مشكلة واحدة، بل من منظومة من التفاوتات البنيوية، تبدأ من الفجوة الرقمية وتصل إلى السياسات الوطنية، مرورًا بالتمويل، والقدرة الإنسانية، ودرجة وعي المجتمعات بدور المكتبة.

التحدّيات الراهنة أمام المكتبات العربية

عندما نتأمل حال المكتبات في العالم العربي، نجد أن التحديات لا تتعلق بالكتاب وحده، بل بالبنية الثقافية والإدارية والتقنية التي تحيط به. فالمكتبة، مهما كان مبناها جميلًا ومجموعتها واسعة، لا تستطيع أن تقوم بدورها الحقيقي إذا كانت محاصَرة بعقبات تمسّ جوهر عملها. ويمكن تلخيص أبرز هذه التحديات في خمسة محاور رئيسية تتقاطع فيما بينها، وتشكّل في مجموعها الصورة الكاملة للمشهد.

أول هذه التحديات هو ضعف التمويل؛ فالمكتبات، وخاصة العامة منها، تعتمد على ميزانيات محدودة لا تكفي لتحديث المجموعات أو شراء قواعد بيانات حديثة أو تطوير البنية الرقمية. وفي كثير من الأماكن، تتراجع الأولويات الثقافية أمام الاحتياجات الاقتصادية، فتتقلص موازنات المكتبات عامًا بعد عام، مما يحولها إلى مؤسسات ساكنة غير قادرة على التجديد.

أما التحدي الثاني فهو نقص الكوادر المتخصصة. فإدارة المعرفة اليوم ليست مهمة تقليدية، بل تتطلب مهارات في الفهرسة الرقمية، وتنظيم البيانات، وخدمة المستفيدين، وتصميم البرامج المجتمعية. ومع ذلك، لا تزال العديد من المكتبات تعتمد على موظفين لم يحصلوا على تدريب كافٍ، أو يعملون خارج تخصصهم، مما يضعف جودة الخدمات ويحدّ من قدرة المكتبات على التطور.

ويبرز أيضًا التحدي الثالث: الفجوة الرقمية. فبينما تتسارع التكنولوجيا في العالم، لا تزال مكتبات عربية كثيرة تواجه انقطاع الإنترنت، أو تعمل بأنظمة فهرسة قديمة، أو تفتقر إلى أجهزة حديثة. وهكذا تفقد المكتبة أهم نافذة للمستقبل، إذ يصبح الوصول إلى المحتوى الرقمي، والأرشيفات العالمية، والكتب الإلكترونية، أمرًا شبه مستحيل.

ويتداخل مع ذلك التحدي الرابع: غياب الرؤية الوطنية. فعدد قليل من الدول العربية يمتلك سياسات مكتبات عامة واضحة، أو معايير موحدة للفهرسة، أو خططًا استراتيجية لتوسيع دور المكتبات. لذلك يبقى العمل مجزّأً واجتهاديًا، وتبقى المكتبات رهينة للظروف المحلية بدل أن تكون جزءًا من مشروع ثقافي وطني.

ويبقى التحدي الخامس والأكثر حساسية: عزوف الجمهور. فالتغيرات الاجتماعية، وانشغال الشباب بالهاتف والإنترنت، وضعف برامج الترويج الثقافي، كلها عوامل جعلت المكتبات أقل حضورًا في حياة الناس. وفي غياب مشاريع جذابة أو مساحات مفعمة بالحياة، تصبح المكتبة مكانًا لا يزوره إلا من يعرفه مسبقًا، لا من يبحث عن تجربة جديدة.

إن هذه التحديات، على تنوعها، تشكّل سلسلة مترابطة؛ فضعف التمويل يؤثر على التدريب، وغياب الرؤية يفاقم الفجوة الرقمية، وعزوف الجمهور يزيد من محدودية الموارد. ولهذا فإن إصلاح المكتبات العربية لا يمكن أن يقوم على حل واحد، بل يحتاج إلى مقاربة شاملة تعيد تعريف دور المكتبة وتربطه بواقع المجتمع واحتياجاته المستقبلية.

المكتبات العربية بين مكامن القوة والفرص غير المُفعّلة

رغم صعوبة الواقع وتعدد التحديات، إلا أن المكتبات العربية تمتلك مصادر قوة مهمة يمكن البناء عليها، بل إن بعضها لم يُستثمر بعد بالشكل الذي يستحقه. فالمشهد ليس مظلمًا كما يبدو للوهلة الأولى؛ ففي قلب هذا المشهد تتشكل فرص جديدة، يمكن أن تُعيد للمكتبة دورها الحيوي وتفتح أمامها آفاقًا أوسع.

أولى هذه الفرص هي تحوّل المكتبة إلى فضاء مجتمعي. فقد بدأت العديد من المكتبات العربية، خصوصًا في المدن الكبرى، تتبنّى مفهوم “المكتبة كمساحة عامة”؛ مكان يحتضن الحوار، وورش العمل، والأنشطة الإبداعية، ويستقبل الأطفال والشباب والنساء في بيئة آمنة. هذه التجارب، وإن كانت محدودة، تثبت أن المجتمع مستعد للتفاعل حين يجد مكتبة تقدم له ما يتجاوز استعارة الكتب.

وتبرز أيضًا فرصة مهمة في الرقمنة. فالوطن العربي يمتلك ثروة هائلة من المخطوطات، والوثائق التاريخية، والموروثات الشفوية، ما يجعل الرقمنة ضرورة لا رفاهية. وقد أثبتت بعض المبادرات العربية أن رقمنة التراث وإتاحته يمكن أن يحوّل المكتبة إلى منصّة معرفة عالمية تتجاوز حدود الجغرافيا. هذه الفرصة لا تزال في بداياتها، لكنها تحمل إمكانات ضخمة لتمكين الباحثين، والطلاب، وصنّاع المحتوى، وكل من يسعى إلى إعادة اكتشاف التاريخ العربي.

كما تتوفر للمكتبات فرصة لتعزيز دورها من خلال الشراكات؛ سواء مع المدارس، أو الجامعات، أو البلديات، أو الجمعيات الأهلية. فالبرامج المشتركة، ونوادي القراءة، والمساحات التعليمية المفتوحة، تمنح المكتبة حضورًا أوسع، وتربطها بشرائح جديدة من المجتمع. كثير من المكتبات في المنطقة تمتلك بنية مكانية جيدة، لكنها تحتاج فقط إلى تفعيلها عبر شراكات ذكية ومستدامة.

إلى جانب ذلك، تشكل برامج التعليم غير الرسمي فرصة واعدة. فالمكتبة يمكن أن تكون مكانًا لتعلم المهارات الرقمية، والكتابة الإبداعية، واللغة العربية، والبحث العلمي المبسّط للأطفال واليافعين. هذه البرامج تخلق علاقة جديدة بين المجتمع والمكتبة، وتمنحها دورًا تعليميًا مكمّلًا للمدرسة، وأكثر مرونة وقربًا من الواقع.

إن هذه الفرص، بكل ما تحمله من إمكانات، تمثّل نقطة الضوء الأكثر وضوحًا في مشهد المكتبات العربية اليوم. فهي تثبت أن المكتبة ليست مؤسسة انتهى دورها، بل مشروع قابل للنهوض متى ما توفرت الإرادة، والرؤية، والشراكات التي تمنحه الحياة.

تجارب عربية ملهمة تعيد تعريف دور المكتبة

على الرغم من التحديات التي تواجهها المكتبات العربية، فإن خارطة المنطقة تحمل نماذج مشرقة تستحق التوقف عندها، لأنها تثبت أن تطوير المكتبات ليس حلمًا بعيدًا، بل تجربة قابلة للتكرار حين تتوفر الرؤية والموارد والإرادة. وتمتاز هذه التجارب بأنها لا تكتفي بتحديث المباني أو توسيع المجموعات، بل تعيد صياغة مفهوم المكتبة نفسها، وتجعلها أكثر قربًا من الناس وأكثر اتصالًا بحياتهم اليومية.

في الإمارات على سبيل المثال، نجحت مكتبات مثل مكتبة محمد بن راشد في تقديم نموذج للعصر الرقمي، حيث تتجاور القاعات الواسعة مع الخدمات الإلكترونية المتقدمة، وتتحول المكتبة إلى مركز للمعرفة والابتكار، يستقطب العائلات والطلاب وصنّاع المحتوى. وقد ساعد الاستثمار القوي في البنية الرقمية على تعزيز الوصول إلى مصادر عالمية، وجعل المكتبة جزءًا من المشهد التعليمي والثقافي الحديث.

أما في السعودية، فتبرز مكتبة الملك عبد العزيز العامة ومكتبات المناطق الكبرى كمساحات حيوية تجمع بين الثقافة والترفيه والتعليم. فقد نجحت هذه المؤسسات في استقطاب العائلات عبر برامج للطفل، وورش عمل، ومساحات قرائية مصممة لجعل زيارة المكتبة تجربة اجتماعية ممتعة وليست واجبًا مدرسياً.

وفي مصر، تظل مكتبة الإسكندرية واحدة من أبرز المؤسسات الثقافية في المنطقة، ليس فقط بفضل أرشيفها الرقمي ومركزها البحثي، بل كذلك لبرامجها العامة التي تستهدف الشباب والطلاب والجمهور العام عبر محاضرات وفعاليات ونوادٍ ثقافية. كما تشهد بعض المكتبات العامة في القاهرة والإسكندرية محاولات جادة للتحوّل إلى فضاءات مجتمعية من خلال التعاون مع المجتمع المدني.

إن هذه النماذج، على اختلاف ظروفها وإمكاناتها، تحمل رسالة واحدة: المكتبة العربية قادرة على التجدد حين تُمنح الفرصة لتكون مؤسسة حيّة، لا مجرد مبنى للكتب. فنجاح هذه التجارب يكمن في قدرتها على الاندماج مع المجتمع، وتقديم برامج جذابة، والاستفادة من التكنولوجيا، وتوسيع مفهوم المعرفة ليشمل كل ما يرتبط بحياة الإنسان اليومية.

كيف يمكن للمكتبات العربية أن تصبح جزءًا من المستقبل؟

إن مستقبل المكتبات العربية يرتبط ليس بمبانيها أو مجموعاتها المادية فقط، بل بقدرتها على التحول إلى منظومات معرفية مرنة، تواكب التغيّرات الرقمية والثقافية، وتخدم مجتمعاتها بصورة أوسع. ولكي تحقق المكتبات هذا التحوّل، يتطلب الأمر توفر مجموعة من الشروط الجوهرية التي تشكّل معًا مسارًا واضحًا للنهضة المكتبية.

أولاً: وجود سياسة وطنية واضحة تُحدد أدوار المكتبات، وتوفير معايير موحّدة للفهرسة والخدمات والمشاركة المجتمعية. فغياب هذه السياسات يجعل الجهود متفرّقة، والمكتبات تعمل بمعزل عن بعضها، ما يضعف الأثر الجماعي ويزيد التكاليف.

ثانيًا: التمويل المستدام ضروري لتحديث المجموعات، والاشتراك في قواعد البيانات، وتطوير البنية التحتية، والاستثمار في الخدمات الرقمية. فالمكتبة التي لا تمتلك موارد كافية تظل مجرّد مساحة ثابتة لا تنمو مع متطلبات العصر.

ثالثًا: تأهيل الكوادر البشرية من العاملين في المكتبات أمر لا بدّ منه؛ فالمكتبات الرقمية اليوم تحتاج إلى خبرات في إدارة البيانات الرقمية، والتحليل، وتصميم البرامج المجتمعية، وتقديم خدمات تفاعلية للمستفيدين. الاستثمار في الإنسان لا يقلّ أهمية عن الاستثمار في التقنية.

رابعًا: البنية التقنية الرقمية الحديثة تمثّل عصب المكتبة المعاصرة؛ فالمكتبة التي لا تملك نظامًا مرنًا للإدارة الرقمية أو بوابة وصول للمستخدمين فإنها تتخلف عن مسار المعرفة. وهنا تبرز منصة مداد لخدمات المكتبات كنموذج عربي رائد: فهي منصة سحابية تخدم المكتبات بأنظمة متكاملة تشمل إدارة المكتبة (ILS)، مستودع الأصول الرقمية، بوابة المكتبة، ومساعد افتراضي، وتوفّر دعمًا قويًا للّغة العربية، وتيسير الوصول من أي جهاز وفي أي وقت.

من خلال هذه المنصة، تستطيع المكتبات دمج مقتنياتها الورقية والرقمية في نافذة واحدة، وتوحيد الفهارس، وتمكين المستخدم من البحث والإعارة والدخول إلى المحتوى بسهولة. كذلك تتيح المنصة تكاملًا مع مستودعات خارجية وقواعد بيانات، ودعمًا مُحسّنًا للبحث باللغة العربية، مما يُعدّ ميزة هامة في عالم المكتبات العربية. يُقلّل استخدام المنصة من عبء الصيانة التقنية والتحديثات، ويمنح المكتبة مزيدًا من الوقت للاستثمار في البرامج والأنشطة المجتمعية.

خامسًا: الشراكات المجتمعية والثقافية تُعدّ مفتاحًا لتوسيع الدور المجتمعي للمكتبة. فعندما ترتبط المكتبة بالمدارس والجامعات والجمعيات المحلية، وتقدّم برامج للتعلم غير الرسمي، وتفتح أبوابها لورش الإبداع، فإنها تتحول إلى فضاء عام نابض بالحياة لا يقتصر على استعارة الكتب فقط.

سادسًا: رؤية مجتمعية جديدة تجعل المكتبة مكانًا للتعلّم، والإبداع، واللقاء، لا مجرد مكان للكتب. فكلما أصبحت المكتبة قادرة على ربط المعرفة بحاجات الناس ومواهبهم وفضولهم، كلما ازدادت قدرتها على البقاء والتجدد.

بهذه العناصر: الرؤية الواضحة، التمويل المستدام، التقنية الذكية والمنصات السحابية ، تأهيل الكوادر والشراكات المجتمعية، يمكن للمكتبات العربية أن تخطو خطوات فعلية نحو التحوّل وأن تصبح جزءًا فاعلًا من مستقبل المعرفة في مجتمعاتها.