نعيش اليوم حقبة تشهد اقتصاداً عالمياً متزايد الانفتاح بشكل غير مسبوق، وبالتالي يتطلب تحقيق الاقتصاد التنافسي استراتيجيات جديدة لتهيئة بيئة تمكينية مواتية للابتكار الرقمي وريادة الأعمال عبر القطاعات المختلفة. في هذا السياق يصبح الابتكار ضرورة مُلحة لمؤسسات التعليم العالي كي يتسنى لها الاحتفاظ بمكانتها. وبالرغم من إدراك عدد كبير من الجامعات لأهمية الابتكار، إلا أن إدراج الكلمة في الخطط السنوية أو تأسيس إدارات للابتكار لا يكفي للنجاح في تخطي الأزمات التي قد تهدد مؤسسات التعليم العالي. وإذا أخذنا في الاعتبار أن التعليم العالي "محركًا" للابتكار و "محفزًا" للتنمية المستدامة، فإن تكامل كل من دور "محرك الابتكار" و "محفز الاستدامة" ينعكس بشكل أفضل في مشاركة التعليم العالي في النظم البيئية للابتكار.
في النظام الإيكولوجي للابتكار، لم يعد من المقبول أن تعمل الجامعة كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي من خلال نقل المعرفة فحسب، بل يجب أن تكون أكثر انخراطا في أدوار تبرز فيها المسؤولية الاجتماعية للجامعة بشكل واضح. وفي هذا الصدد، يقول رئيس قطاع التعليم العالي في اليونسكو، بيتر جيه ويلز Peter. Wells: "ربما لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث أن كان دور التعليم العالي مرتبطًا بشكل معقد بالنسيج الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للعالم الحديث. إن التغييرات المجتمعية التي تتطلب أدوارًا أوسع للجامعات تتطلب أيضًا وتؤدي إلى تغييرات جوهرية داخل النسيج الداخلي للجامعة. تتطلب الابتكارات في كل من المجتمع والجامعات فهمنا المتجدد للتعليم العالي في المجتمع، والذي قد يصبح برنامجاً لموضوعات بحثية جديدة في الدراسات حول الابتكار في التعليم العالي."
ما هو نظام الابتكار البيئي؟
من المعترف به الآن على نطاق واسع أن تحقيق أي نتيجة إنمائية واستدامتها يعتمد على قدرة الجهات الفاعلة المتعددة والمترابطة - الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والجامعات وأصحاب المشاريع الفردية وغيرهم - على العمل معًا بفعالية. كل مجموعة من الجهات الفاعلة المترابطة التي تنتج أعمالها الجماعية نتيجة لعملية إنمائية معينة هي نظام محلي (أو "نظام بيئي"). وبالتالي، فإن تحسين نتيجة التنمية تلك يتطلب نهجًا للنظم الإيكولوجية.
يتكون النظام الإيكولوجي للابتكار من جهات فاعلة وعلاقات وموارد مختلفة تلعب جميعها دورًا في اتخاذ فكرة رائعة لتحقيق تأثير تحويلي على نطاق واسع. يمكن إنشاء نظام إيكولوجي للابتكار من خلال إشراك الأشخاص المناسبين. يجب أن تشمل شبكة الابتكار الإدارة العليا التي يمكنها تمويل المشاريع، والقادة الذين حققوا نجاحًا في الابتكارات السابقة، والخبراء التقنيين، والمستشارين الخارجيين.
يمكن أن تعمل النظم الإيكولوجية للابتكار على مستويات متعددة (مثل المدينة، والإقليم، والوطن) وداخل قطاعات متعددة (مثل الزراعة والصحة والتعليم). بسبب هذا الاتساع، قد يكون من الصعب رسم حدود ذات مغزى حول من هو أو ليس جزءًا من النظام الإيكولوجي للابتكار. لذلك من المفيد التركيز أولاً على القطاع والمشكلة التي يسعى الابتكار إلى معالجتها، ثم النظر في الجهات الفاعلة المحددة والموارد والعوامل السياقية التي سيحتاج الابتكار إلى المشاركة أو الاستخدام أو التأثير ليكون مؤثرًا.
تطور النظام الإيكولوجي للابتكار
يعني مصطلح النظام الإيكولوجي بصفة عامة، جميع العناصر الفيزيائية والبيولوجية المجتمعة في البيئة. وهذه الكائنات تشكل مجموعة معقدة من العلاقات وتعمل ككل موحد في تفاعلها مع بيئتها الفيزيائية. لقد تطور مفهوم النظام الإيكولوجي للابتكار، معتمداً على مفهوم النظام الإيكولوجي للأعمال، الذي يعتمد على رؤية المؤسسة أو الشركة كجزء من نظام بيئي للأعمال بدلاً من نظام لصناعة واحدة. ما يجعل مفهوم النظام الإيكولوجي للابتكار متميزًا عن النظام البيئي للأعمال هو خلق" القيمة المشتركة ". يرتبط مفهوم الإبداع المشترك للقيمة أساسًا باستراتيجية أعمال تركز على العلاقات التفاعلية بين المنتجين والمستهلكين. هذا بالإضافة إلى أن النظام البيئي للأعمال يهتم في المقام الأول بالتقاط القيمة، بينما يرتبط النظام البيئي للابتكار بشكل أكبر بالخلق المشترك للقيمة.
الجديد في النظام الإيكولوجي للابتكار هو جانبه البيئي، الذي يتميز بالاعتماد المتبادل بين مختلف الفاعلين المتعاونين والتطور المشترك / الإبداع المشترك الذي يربطهم معًا بمرور الوقت، جنبًا إلى جنب مع بُعد التنمية المستدامة". كما ويتم الإشارة أيضًا إلى شبكات "الابتكار المشترك" عند التطرق إلى مفهوم النظام الإيكولوجي للابتكار. يشمل مفهوم الابتكار المشترك "التعاون، والتنسيق، والإبداع المشترك، والتقارب، والتكامل، ويمكن فهمه على أنه "العمليات المتشابكة ديناميكيًا للتعاون والتطور المشترك، والتخصص المشترك داخل وعبر النظم الإيكولوجية للابتكار الإقليمية والقطاعية "
الملاحظ أنه وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة الرامية إلى تقديم تعريف للنظام الإيكولوجي للابتكار، إلا أن هناك إجماع على أن التعريفات المقدمة ليست كافية لفهم النظام بشكل كامل. كما وأن هناك حاجة إلى إطار مفاهيمي أو نظري لتوضيح طبيعة وديناميات النظم الإيكولوجية للابتكار، فإن مفهوم النظام الإيكولوجي للابتكار هو مستوى عالٍ من التجريد ويُستخدم بشكل فضفاض. وبالتالي، من الضروري إجراء أبحاث مستقبلية لتحسين الدقة المفاهيمية والنظرية والتجريبية لمفهوم النظام البيئي للابتكار.
يكمن أحد العوائق التي تحول دون تطوير مفهوم النظام الإيكولوجي للابتكار في التركيز الضيق للنُهج الحالية، والتي تميل إلى تجميع النظام الإيكولوجي للابتكار وفقًا لمكونات النظام البيئي الطبيعي. يؤدي هذا إلى بعض المفارقات التي تبدو غير قابلة للحل، مثل التصميم المتعمد لأنظمة الابتكار البيئية التي لا تشبه في الواقع النظم البيئية في الطبيعة.
إن تطوير تصور صارم للنظام الإيكولوجي للابتكار هو مشروع منهجي يتطلب التعاون بين العلماء في مجالات البحث المختلفة، مع رؤى متعددة ومن خلال تحقيقات تجريبية قوية.
تغيير أدوار التعليم العالي في النظم الإيكولوجية للابتكار
نظرا لأن مجتمعنا يزداد اعتمادًا على المعرفة، فإن الدور البارز للجامعات في المشاركة المجتمعية، وخاصة في السياق الإقليمي يزداد أهمية. فهناك أنواع جديدة من العلاقات بين الجامعات والتنمية الاقتصادية، حيث تحولت الجامعة إلى مؤسسة أولية للنمو الاقتصادي في المجتمع القائم على المعرفة. وهنا يبرز دور "محرك الابتكار" للتعليم العالي على الآثار الاقتصادية طويلة المدى للمشاركة المجتمعية للجامعة، مثل تحسين جودة العمالة المحلية، ونقل التكنولوجيا إلى الصناعة، وتعزيز جاذبية البيئة المحلية لرواد الأعمال. فمع إقتران النظام الإيكولوجي للابتكار بسمات مميزة مثل التحول المجتمعي المستدام والابتكار المشترك وتبادل المعرفة، تصبح الأدوار المتغيرة للتعليم العالي في سياق النظم البيئية للابتكار، على جدول الموضوعات البحثية الجديدة، التي بدأت بالفعل بعض الدراسات الحديثة بتناولها. على سبيل المثال، حدد تقرير حديث نشرته رابطة الجامعات الأوروبية (EUA) أربعة أدوار للجامعات في أنظمة الابتكار الإقليمية على النحو التالي:
التعليم: توفير رأس المال البشري "للابتكار"،
البحث: المعرفة (المشاركة) الإنتاج من أجل خلق القيمة الخاصة والعامة،
تبادل المعرفة لأنظمة الابتكار: من نقل التكنولوجيا إلى الإبداع المشترك متعدد الفاعلين و
التحول الاستراتيجي: تضمين الابتكار
كما ويتم كذلك التأكيد على دور الجامعات في السياق العالمي، ففي مقال حديث بعنوان" بناء شبكات الابتكار المشترك بين الجامعات والصناعة في النظم البيئية للابتكار" يتم الإشارة إلى ثلاثة أدوار للجامعة في النظم البيئية للابتكار.
أولاً: يتغير دور الجامعة من كونها لاعباً مركزياً في نقل التكنولوجيا إلى كونها منظمة راسخة في مجال تبادل المعرفة. يُعرَّف نقل التكنولوجيا عادةً بأنه "عملية نقل التكنولوجيا من مؤسسة للقاعدة العلمية (على سبيل المثال، مؤسسة للتعليم العالي) إلى منظمة صناعية، والتي تقوم بتسويق التكنولوجيا من خلال تنفيذ عمليات جديدة وتطوير وإطلاق للمنتجات الجديدة أو تسهيل التغيير التنظيمي الناجح والمبتكر. في حين أن نقل التكنولوجيا هو اتجاه واحد للمعرفة من الأكاديمية إلى الصناعة، فإن "تبادل المعرفة"، هو ثنائي الاتجاه، لا ينطوي فقط على نقل المعرفة من الأولى إلى الثانية؛ بل يساعد الأكاديميين على تطوير أسئلة بحث مثيرة للاهتمام، وإجراء بحث أفضل وتوفير فهم أفضل لتطبيقات البحث في الصناعة. هذه الطبيعة ثنائية الاتجاه لتبادل المعرفة هي مفتاح قيمة الإبداع المشترك. هنا، الجامعة ليست مجرد منشئ للمعرفة ولكنها أيضًا عامل تمكين للخلق المشترك للقيمة.
ثانيًا: تقوم الجامعة بدور جديد في بناء الثقة بين الجهات الفاعلة في النظم البيئية للابتكار، وبحيث يمكن فهم التفاعلات بين الجهات الفاعلة في النظام الإيكولوجي للابتكار على أنها علاقات اجتماعية وتبادل المعرفة هو نتيجة العلاقات الاجتماعية. يمكن تفسير العلاقات / التفاعلات الاجتماعية من خلال نظريتين، وهما نظرية التبادل الاجتماعي ونظرية الشبكة الاجتماعية، وهما مكملان لبعضهما البعض.
ثالثًا: الجامعة ليست مجرد جامعة ريادية ولكنها أيضًا مؤسسة رائدة للأعمال في نظام الابتكار البيئي. الجامعة كمؤسسة لريادة الأعمال كانت استجابة لتوليد نقل التكنولوجيا والشركات الناشئة القائمة على المعرفة، فقد توسع دور الجامعة في مجتمع ريادة الأعمال للتركيز على تعزيز رأس مال ريادة الأعمال وتسهيل السلوك لتحقيق الازدهار في مجتمع ريادة الأعمال. يتطلب كل من "تعزيز ريادة الأعمال" و "السلوك الميسر" تغييرات في البيئة المؤسسية. يمكن فهم عملية تعزيز التغييرات المؤسسية على أنها ريادة الأعمال الاجتماعية، وهي "نهج مبتكر لتحقيق الرسالة الاجتماعية"، وتعتبر مفتاحًا لنظام الابتكار
تشير جميع الأدوار الثلاثة الناشئة إلى أن الجامعات أصبحت العامل المحفز للتنمية المستدامة في ظل وجود النظم الإيكولوجية للابتكار، حيث إن عملية تبادل المعرفة أمر حاسم و هي أساس الشبكات المستدامة؛ كما وأن ريادة الأعمال الاجتماعية أمر لا غنى عنه للتغيير الاجتماعي المستدام.