مدونة نسيج

حين ينهار الصفر والواحد: الحوسبة الكمومية وإعادة تشكيل موازين القوة في العالم

Written by هيام حايك | 20/11/2025 09:35:06 ص

"إذا لم تُربِكْكَ الحوسبة الكمومية وتُبهرك ، فاعلم أنك لم تدركها بعد". بهذه الروح تحدّث ريتشارد فاينمان قبل حوالي أربعين سنة عن مفهوم بدا آنذاك حبيس الفيزياء النظرية. أمّا الآن، فقد اصبحت جملته نفسها إشارة تحذير مبكّرة إلى زمن جديد، يضع تحت السؤال كل ما كنا نعدّه يقينًا رقميًا أمنًا لا لا يمكن المساس به.

من الواضح ، انه وفي المستقبل القريب سينتهي زمن الحواسيب التي تختار بين صفر وواحد. الآن وُلدت آلات لا تكتفي بالاختيار، بل تتعامل مع كل الاحتمالات في اللحظة نفسها، ثم تُلقي إلينا بالنتيجة كما لو كانت تعرفها منذ اللحظة الأولى للانفجار العظيم. آلات لا تسرّع الحساب… بل تعيد تعريف معنى “الحساب” نفسه، وتضع سؤال الممكن والمستحيل على طاولة إعادة التفاوض، وحيث أنظمة التشفير، الأسرار العسكرية، الحسابات البنكية، والسجلات الطبية… كلها أمام تحدٍّ جديد، فرضته حواسيب لا تنظر للأرقام واحدًا واحدًا، بل كطيف واسع من الاحتمالات المتزامنة.

وهنا لابد يكون الحديث عن والتي تأتي كعلامة فاصلة بين مرحلتين: مرحلة كان الإنسان يحسب فيها بالتتالي، ومرحلة تحسب فيها الآلة فضاءً كاملًا من الاحتمالات في خطوة واحدة. وبالتالي، من يفهم هذا اليوم، سيحسن اختيار مكانه في خريطة الغد. ومن يتجاهله، قد يكتشف متأخرًا أنه تحوّل إلى “أُحفورة رقمية” في عالم لم يُصمَّم على مقاسه. وان السؤال لم يعد: هل ستأتي الحوسبة الكمومية؟ بل: كيف سنستعد نحن لعالم تُصبح فيه هذه القدرة جزءًا من قوتنا أو نقطة ضعفنا؟

كيف تعمل الحوسبة الكمومية… ولماذا قد تغيّر قواعد الأمن الرقمي عالميًا؟

قبل أن نناقش تأثير الحوسبة الكمومية على العالم الرقمي، لا بدّ أن نفهم “المعجزة” الفيزيائية التي تقوم عليها. فبينما تعمل الحواسيب التقليدية بالاعتماد على البِت الذي يأخذ قيمة 0 أو 1، فإن الحاسوب الكمومي يعتمد على الكيوبِت—وهو حالة فيزيائية يمكن أن تكون 0 و1 في الوقت نفسه بفضل ظاهرة تُسمّى التراكب (Superposition). ولا يتوقف الأمر هنا.
الكيوبتات يمكن أن ترتبط ببعضها عبر التشابك الكمومي (Entanglement)، بحيث يؤثر قياس أحدها على الآخر فورًا، حتى لو كانا متباعدَين مسافات شاسعة. هذه الخصائص تمنح الحوسبة الكمومية قدرة غير مسبوقة على معالجة عدد هائل من الاحتمالات في وقت واحد، بدل الطريقة التقليدية التي تعالج الاحتمالات بالتتابع. ولكن أين يبدأ الخطر؟ ولماذا يهتم العالم كله؟

يعتمد جزء كبير من الأمن الرقمي الحديث على صعوبة عمليات رياضية مثل:

  • تحليل الأعداد الكبيرة (Factorization)
  • اللوغاريتمات المنفصلة (Discrete Logarithms)

هذه العمليات تحتاج آلاف السنين من قدرة الحوسبة التقليدية لكسرها، وهذا ما يمنح الحسابات البنكية والتوقيعات الرقمية والعملات المشفّرة وسجلات الصحة والاتصالات الآمنة شعورًا عامًّا بأنها “محصّنة”. لكن مع ظهور خوارزمية شور (Shor’s Algorithm) وهي خوارزمية كمومية قادرة على معالجة هذه العمليات بكفاءة غير مسبوقة — أصبح من الواضح أن الحوسبة الكمومية تضع أسس التشفير الحديث تحت تهديد مباشر.

ورغم أن الحواسيب الكمومية العملية لم تصل بعد إلى قدرتها الكاملة، فإن ما يقلق المؤسسات الأمنية حول العالم هو سيناريو معروف باسم Harvest Now, Decrypt Later؛ أي اجمع البيانات الآن… وافكّ تشفيرها لاحقًا عندما تتوفر القوة الكمومية.بمعنى آخر: أي رسالة مشفّرة تُرسل اليوم قد لا تبقى سرًّا بعد سنوات قليلة

لماذا نشهد سباقًا عالميًا نحو "التشفير ما بعد الكمومي"؟

خلال السنوات الأخيرة، بدأت مؤسسات عالمية مثل:

  • NIST

  • وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)

  • الاتحاد الأوروبي

  • الصين

  • جوجل ومايكروسوفت

بالعمل على معايير تشفير جديدة مقاومة للهجمات الكمومية (Post-Quantum Cryptography).، هذا الانتقال ليس رفاهية تقنية، بل استجابة لواقع جديد:القدرة الكمومية، حتى لو كانت محدودة اليوم، تتطور بوتيرة سريعة جدًا.

ولهذا بدأ العالم يعيد بناء بنيته الرقمية من الصفر تقريبًا، استعدادًا للحظة يصبح فيها الكمبيوتر الكمومي قادرًا على تنفيذ هجمات لا تستطيع الأنظمة الحالية مقاومتها، مما يجعل من الحوسبة الكمومية ليست مجرد “جيل جديد من الحواسيب”، بل تحوّل جذري في كيفية معالجة المعلومات.
وهنا السؤال لم يعد:هل ستصبح الحوسبة الكمومية واقعًا؟ بل: هل ستكون بنية العالم الرقمية جاهزة عندما يحدث ذلك؟

سباق القوة العالمية – كيف أصبحت الحوسبة الكمومية سلاحًا جيوسياسيًا؟

مع تسارع التطور في الحوسبة الكمومية، لم تعد هذه التقنية تُناقش فقط في سياق البحث العلمي أو التطبيقات الصناعية، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من سباق القوة بين الدول الكبرى. وكما شكّل الذكاء الاصطناعي والفضاء والسلاح النووي معالم الصراع التكنولوجي في القرن العشرين، تبدو الحوسبة الكمومية اليوم في قلب الصراع التكنولوجي للقرن الحادي والعشرين، وهنا قد سيكون من المهم النظر في النقاط الأربع التالية:

1. الولايات المتحدة والصين: معركة غير معلنة على المستقبل

تستثمر الولايات المتحدة والصين مليارات الدولارات سنويًا في تطوير الحواسيب الكمومية، ليس لأنها ثورية علميًا فقط، بل لأنها قد تمنح أفضلية استراتيجية لأي دولة تصل إلى “الحوسبة الكمومية العملية” أولاً.

في الولايات المتحدة، تقود شركات مثل Google وIBM وMicrosoft جزءًا كبيرًا من الابتكار، بدعم من برامج حكومية مرتبطة بالأمن القومي وتمويل بحثي ضخم. الهدف المعلن هو الوصول إلى حاسوب كمومي يمكن استخدامه عمليًا على نطاق واسع خلال هذا العقد. في المقابل، تراهن الصين على بناء منظومة كمومية متكاملة؛ فقد أنشأت أحد أكبر المختبرات الكمومية في العالم في مقاطعة أنهوي، وأطلقت قمرًا صناعيًا كموميًا للاتصالات الآمنة، وتعمل على مدّ شبكات اتصال كمومية بين المدن. في هذا السياق، لم يعد الصراع على “التفوّق العلمي” فقط، بل على من سيمتلك مفاتيح الأمن السيبراني والاقتصاد والذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية في المستقبل.

2. لماذا التأخر خمس سنوات قد يعني الخروج من نادي القوى العالمية؟

التكنولوجيا الكمومية ليست مسارًا تقنيًا يتطور تدريجيًا مثل الإنترنت أو الهواتف الذكية؛ إنها أقرب إلى قفزة نوعية تُعيد ترتيب المشهد من جديد.

اللحظة التي تمتلك فيها دولة ما حاسوبًا كموميًا قادرًا على كسر أنظمة التشفير الحالية، وتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي، وتسريع تطوير المواد الجديدة، والمساهمة في حل مشكلات المناخ والطاقة، هي لحظة تحوّل استراتيجي في ميزان القوة.

لهذا يشير بعض الباحثين في معاهد مثل MIT وجامعة Tsinghua إلى أن التأخر خمس سنوات في مجال الحوسبة الكمومية قد يعادل التأخر ثلاثين سنة في أي مجال تكنولوجي آخر، لأن البنى الرقمية ومنظومات الأمن والاقتصاد المعرفي ستُعاد هندستها حول هذه القدرة الجديدة.

  1. الحوسبة الكمومية كسلاح استراتيجي: ما الذي تخشاه الجيوش الحديثة؟

لا يتوقف أثر الحوسبة الكمومية عند حدود اختراق الأنظمة المشفّرة، بل يمتد إلى طيف واسع من التطبيقات العسكرية والاستراتيجية. فالتشفير الكمومي يَعِد بقنوات اتصال شديدة الأمان يصعب التجسس عليها بالطرق التقليدية، في حين تُطوَّر رادارات كمومية قد تحسّن القدرة على كشف الطائرات الشبح وتقليل فاعلية تقنيات الإخفاء الحالية. إلى جانب ذلك، تتيح المحاكاة الكمومية عالية الدقة تصميم واختبار أنواع جديدة من الأسلحة والمواد في بيئات افتراضية، قبل الانتقال إلى التجارب الميدانية. كما يمكن لتحليل الإشارات المعقدة وأنماط حركة الأنظمة الدفاعية في أزمنة قريبة من الزمن الحقيقي أن يفتح الباب أمام تعطيل أو تحييد منظومات دفاع كاملة.

لهذه الأسباب بدأت بعض الجيوش تنظر إلى الحوسبة الكمومية بوصفها فئة جديدة من الأسلحة الاستراتيجية، شبيهة في أثرها بالتحوّل الذي أحدثه السلاح النووي، ولكن في المجال الرقمي والبنيوي للبنى التحتية.

  1. أين تقف أوروبا؟ وماذا عن بقية العالم؟

رغم أن أوروبا لا تمتلك نفس الزخم التجاري الذي تتمتع به الولايات المتحدة أو الصين من حيث الشركات العملاقة، فإنها تؤدي دورًا مهمًا في وضع المعايير وتنسيق الجهود البحثية. فهي تقود مبادرات في مجال الأمن ما بعد الكمومي، وتموّل برنامج “Quantum Flagship” الذي يهدف إلى تطوير منظومة أوروبية متكاملة للتقنيات الكمومية.

في المقابل، ما تزال معظم الدول النامية، ومن ضمنها العديد من الدول العربية، شبه غائبة عن هذا السباق، باستثناء جهود بحثية محدودة. ولا يقتصر الخطر هنا على فقدان فرصة اقتصادية أو علمية، بل يشمل احتمال تحوّل هذه الدول إلى مستخدمين سلبيين لتقنيات طُوِّرت بالكامل في الخارج، ما يجعلها أكثر عرضة لانكشاف بنيتها الرقمية أمام قدرات الآخرين.

وفي نهاية هذا المحور نخلص الي ان الحوسبة الكمومية لم تعد مشروعًا أكاديميًا طموحًا أو عنوانًا مستقبليًا بعيدًا، بل أصبحت ورقة جيوسياسية كبرى تسهم في رسم حدود القوة العالمية في القرن الحادي والعشرين. لهذا يتزايد اليوم سؤال يطرحه كثير من الخبراء: هل يمكن أن تتغير موازين القوة في العالم خلال عقد واحد فقط، بمجرد أن تصل دولة واحدة إلى مستوى عملي من الحوسبة الكمومية قبل الآخرين؟

Quantum Valley السعودية: نواة الكمومية العربية

تُمثّل مبادرة Quantum Valley إحدى أوضح المحاولات العربية للدخول الجاد في السباق الكمومي. أُعلن عنها في 15 أبريل 2025 خلال يوم الكم العالمي، بمبادرة من مركز الثورة الصناعية الرابعة السعودي (C4IR) ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (KACST)، وبدعم من أرامكو السعودية والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA). الهدف المعلن هو بناء نظام بيئي يجعل من المملكة «واديًا كموميًا» إقليميًا بحلول 2030، على غرار Munich Quantum Valley في ألمانيا.

على مستوى التنفيذ، ترتكز المبادرة على ثلاثة مسارات متوازية:
الأول، تطوير البنية التحتية الكمومية عبر تركيب وتشغيل أول حاسوب كمومي في المملكة بقدرة 200 كيوبت ، مع تركيز مبكر على تطبيقات في الطاقة والأمن السيبراني والاقتصاد الرقمي.

الثاني، بناء القدرات البشرية من خلال برامج مثل Quantum Challenge مع IBM، والهكاثونات والبرامج التدريبية في أكاديمية طويق وجامعات مثل KAUST، بهدف تكوين كتلة حرجة من الباحثين والمطورين الكموميين السعوديين.
الثالث، تأطير الاقتصاد الكمومي عبر «خارطة طريق للاقتصاد الكمومي» طُوّرت بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي، تربط بين الأبحاث الأساسية والفرص الاستثمارية في قطاعات الصحة واللوجستيات والذكاء الاصطناعي.

في هذا السياق، لا تبدو Quantum Valley مشروعًا سعوديًا فحسب، بل محاولة مبكرة لتأسيس ما يمكن تسميته الكمومية العربية؛ أي انتقال المنطقة من مستهلك للتقنيات الكمومية إلى مساهم – ولو تدريجيًا – في إنتاجها وتشكيل قواعد استخدامها.