مدونة نسيج

سهولة الوصول إلى المعلومات: ما بين وهم المعرفة والسقوط في فخ الغباء

Written by هيام حايك | 09/06/2016 06:13:06 ص


عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، هل بإمكاني أن أطلب منك أن تأخذ نفسا عميقا وتغمض عينيك للحظة وتفكر

في الأشخاص الثلاثة الأكثر أهمية في حياتك.... حسنا، الآن إليك السؤال التالي: هل بإمكانك أن تخبرني أرقام هواتفهم؟  إذا لم تقم بذلك،  فتأكد أنك لست وحدك،،،

ففي دراسة لشركة كاسبيرسكي المنتجة لبرامج حماية الأجهزة الإلكترونية، ظهر انه من بين ستة آلاف مستخدم للإنترنيت تزيد أعمارهم عن 36 عاماً ويعيشون في ستة بلدان أوروبية، اكثر من 47% منهم نسوا أرقام منازل طفولتهم أو مراكز أعمالهم و71% في المئة منهم لا يتذكرون  أرقام هواتف أولادهم. هذا إضافة إلى ان36% منهم يفضلون التوجه مباشرة إلى الإنترنيت للحصول على إجابة عن موضوع ما، هذه النسبة تزيد لدى الراشدين الذين تزيد أعمارهم عن خمسة وأربعين عاماً. والأسوأ،  أن 24% منهم اعترفوا بانهم ينسون مباشرة الإجابة التي جاءتهم عبر الإنترنيت

ما الذي يحدث؟

منذ وقت ليس ببعيد،  وخاصة أولئك الذين هم من جيل ما قبل الثمانينات كان من الممكن أن يحفظوا في ذاكرتهم ليس فقط أرقام الأصدقاء والأهل القريبين منهم ولكن تجدهم يذكرون لك رقم قريبهم الذي يعيش في أمريكا أو استراليات !!!  وفي حال أرادوا معلومة ما قد يذهبون إلي كتاب ما أو يستشيروا صديق أو زميل مما كان يفتح مجال للنقاش والجدل  والبحث والتركيز وفي النهاية ترسيخ للمعلومات وهذا يتم بفعل ما يسمى بالذاكرة التفاعلية transactive memory أو الذاكرة التبادلية أو لربما يسميها البعض الذاكرة الجمعية والتي تعمل وتنشط نتيجة تشارك المعرفة ما بين ذاكرتك وذاكرة الآخرين وبما  يجعل من عملية المعرفة في ذاكرتك ذات  طابع مرجعي ـ جمعي وهذا يقلل من تمركز المعلومات وانحصارها داخل الفرد ويعزز من تثبيتها ضمن المنظومة المعرفية المجتمعية كنتيجة لتفاعل هذا الفرد مع محيطه الاجتماعي. 

مصادر المعلومات الخارجية يمكن أن تكون مكملة لعمل العقل. كما ويمكن للعقل في كثير من الأحيان زيادة كفاءته وقوته من خلال الاستفادة من مصادر خارجية. هذه المصادر الخارجية  تصبح  جزء من المكونات اللازمة لإنشاء نظام الذاكرة المترابطة، وعندما يقوم الأخرين بتقديم مستودعات من المعلومات يصبح العقل معتمد على عقول الأخرين وتبدأ أنظمة الذاكرة التفاعلية في الظهور. في هذه الأنظمة، يتم توزيع المعلومات عبر مجموعات كل منها مسئول عن معرفة منطقة محددة من الخبرة. وهكذا، تتألف هذه النظم من عنصرين رئيسيين هما: الذاكرة الداخلية (ماذا أعرف؟) والذاكرة الخارجية (من يعرف ذلك ). إن هذا التوزيع والمشاركة يدرأ التكرار غير الضروري للجهود، ويعمل على زيادة سعة ذاكرة المجموعة كلها، حيث تعمل أنظمة الذاكر ة التفاعلية  على الترميز وتخزين واسترجاع المعلومات بشكل أكثر فعالية مما يمكن أن يقوم به أي فرد. ويمكن لنظم الذاكرة أن تقوم بأداء أفضل  من خلال استراتيجيات الاتصال التي تخصص مجالات المعرفة للمجموعات في الشبكة. زيادة التنسيق لمجموعات المعرفة التخصصية يساعد على حل المشكلات بطريقة أفضل مما يتم حلها من خلال مجموعة متنافرة

 العلاقة بين ذاكرة الإنترنت والذاكرة البشرية

اليوم وبفعل التكنولوجيا وسهولة الوصول إلى المعلومات من خلال الإنترنت بدأننا نقلل من اعتمادنا على الذاكرة الخاصة بنا وبالآخرين .. حيث أصبح  الإنترنت أكبر مستودع للمعارف الإنسانية الذي يتيح لكميات هائلة من المعلومات الانسياب  بسهولة إلى عقول البشر ونتيجة لذلك  يتزايد اعتماد البشر على الاستعانة بمصادر خارجية (الإنترنت) لإنجاز المهام المعرفية والعثور على المعلومات. وتشير هذه الأدلة أن الإنترنت يمكن أن يصبح جزءا من الذاكرة التبادلية، فالناس يعتمدون على المعلومات التي يعرفون أنها يمكن أن توجد على الإنترنت، وبالتالي تتبع ذاكرة خارجية (الذي يعرف الجواب).

 وقد وصفت شبكة الإنترنت بوصفها  المحفز غير الطبيعي " supernormal stimulus "  من حيث  اتساع نطاقها وسرعة تفوقها  في التكيف مع  عقولنا مقارنة مع أي شريك تفاعلي حقيقي. شبكة الإنترنت قادرة على الوصول بشكل أفضل للكثير  من المعلومات مقارنة بالذاكرة التفاعلية  البشرية بأكملها. هذه الميزات تترك مستخدمي الإنترنت مع القليل جدا من المسؤولية عن المعرفة الداخلية كما ويمكنها أيضا أن تقلل  من مدى اعتماد المستخدمين على الذاكرة الاجتماعية التفاعلية للآخرين. بمعنى آخر،  الشراكة مع الذاكرة التبادلية لشبكة الإنترنت هو  دائما من جانب واحد: فمخازن الإنترنت  تمتلك جميع المعارف، وعلاوة على ذلك، ليست هناك حاجة للتفاوض حول المسؤولية لأن الإنترنت هو الخبير في جميع المجالات.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة تكمن في أن سرعة وصولنا للمعلومات عن الإنترنت يجعلنا نتوهم أن هذه المعلومات التي نستطيع الوصول إليها من الإنترنت، هي امتداد طبيعي للمعلومات المخزنة في أدمغتنا. كأن أدمغتنا أصبحت متصلة بالإنترنت مثل بقية الأجهزة التي تتعامل مع الشبكة، وهو ما يؤدي لتقديرات مُبَالغ فيها لحجم ما نعتقد امتلاكه من معرفة. لقد فقدنا في هذه الحالة الخط الذي يفصل بين ما في أدمغتنا من معرفة، وما نستطيع الوصول إليه من خارج أدمغتنا من معلومات عن طريق الإنترنت، وكأن الدماغ والإنترنت صارا كيانا واحدا. و عندما تصبح الحدود غير واضحة بين ما في أدمغتنا وما في خارجها، سنقع في فخ التضخيم المبَالغ فيه لقدراتنا ولمعارفنا الشخصية.

ولكن المفاجأة هنا أن هذا الاعتماد على الإنترنت ليس مجرد تغيير لأنماط حياتنا فحسب. انه في الواقع تغيير لهيكل أدمغتنا. الاتصال الدائم بالإنترنت في كل الأوقات يغير الإحساس الشخصي بالذات، لأن الحدود بين الذواكر الشخصية والمعلومات المنتشرة عبر الإنترنت تصبح ضبابية. وهي قد لا تلغي الحاجة إلى شريك نتشارك معه في المعلومات فحسب، بل يمكنها أيضا أن تقوض فرص  تثبيت المعرفة في ذاكرتنا الحيوية، وهذا ما يسمى بتأثير جوجل.

متلازمة تأثير جوجل Google effect

 وتسمى أيضا فقدان الذاكرة الرقمية، هو الميل إلى نسيان المعلومات التي يمكن العثور عليها بسهولة على الإنترنت باستخدام محركات البحث على الإنترنت مثل جوجل. على عكس المعلومات والتفاصيل التي يتم الحصول عليها  بطريقة تقليدية (كتاب أو صحيفة). ويصنف بعض المتخصصين تأثير جوجل كأحد  الأمراض النفسية الأكثر رعبــاً حيــث يقــوم بتحويل البشــر لأغبيــاء بالتدريــج وأكــد الخبراء ان هذا الاضطراب لا يقتصــر على القليل من النــاس فقــط بل ربمــا بطريقة مــا قد يصيب كـافة المتعامليــن مع الإنترنت, فالوصول المستمر للمعلومــات بشكل غير محدود بل وسهولــة تـامة بسبب البحث على محرك “غوغل” يجعــل الدمــاغ اقل قدرة على الاحتفــاظ بالمعلومــات حيث يقلل من استخــدام الذاكــرة وذلك يجعــلك أقــل ذكــاء نتيجة لقيامك بتقليص  استخدامك للعقل وهذا ما يهدد البشر على المدى البعــيد

وهم المعرفة

ربما ترجع بداية التخوف من كل أداة تكنلوجية جديدة أو رؤية الأسواء  إلى عهد سقراط Socrates  والذي خشي أن يعتمد الناس على المواد المكتوبة كبديل عن المعرفة التي من المفترض أن يحملوها معهم في رؤوسهم، أو كما يقول  " سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم ويصبحون كثيري النسيان  وبما أنهم سيكونون  قادرين على استقبال كمية كبيرة من المعلومات سيظنون  أنهم واسعي و سيكونون محشوين بوهم الحكمة بدلاً من الحكمة الحقيقية.

 جزء من السبب  في يرجع إلى الخلط بين ما نعلمه بالفعل في ذاكرتنا الشخصية مع ما هو متاح بسهولة لنا من المعرفة المتوافرة مما يجعلنا نبالغ في تقدير كمية المعلومات الواردة إلى ذاكرتنا، وإنتاج "الشعور بالمعرفة"، وبعبارة أخرى، فإنها قد تدمج المعرفة التي  يمتلكها شريكهم مع المعرفة التي يمتلكونها هم أنفسهم (واجنر، 1987).  . السمات الخاصة للإنترنت قد تجعل من الصعب على المستخدمين التفريق بوضوح المعلومات المخزنة داخليا وخارجيا. في معظم الحالات من البحث عن المعلومات، عندما نخطئ بين حدود ما نعلم و ما هو متاح لنا عبر الإنترنت، و يمكن أيضاً أن تكون سبباً في الالتباس، كما وأن  شعور التحكّم بالمعلومات يولّد ثقة زائدة في مقدار الحكمة لدينا، كما تشير النتائج إلى أن الزيادات في الثقة الإدراكية بالذات بعد استعمال جوجل ليست ناجمة عن استجابته الفورية في توفيره للأجوبة الصحيحة، بل إن جوجل يعطي المرء الإحساس بأن الإنترنت أصبحت جزءا من مجموعة أدواته الإدراكية الشخصية.. فحلول عصر المعلومات يبدو أنه قد أوجد جيلا من الناس الذين يشعرون بأنهم يعرفون تماما أكثر من ذي قبل، في حين أن اعتمادهم على الإنترنت يعني معرفة بالعالم المحيط بهم أقل بكثير.

هل شبكة الإنترنت تجعلنا أغبياء

 

يعلن Barry Collins الكاتب بمجلة الحياة والثقافة لقرائه أن كل  التكنولوجيا التي كانوا يتكالبون  على شراءها  على مدى السنوات ال 20 الماضية تجعل منهم أغبياء ، لا يمكنهم تذكر أرقام الهواتف والأكثر من ذلك، أنها تقوم بتدمير الساعة البيولوجية للجسم و  تقلص  الهيبوكامبوس (Hippocampus) والذي  يتموضع بعمق داخل الدماغ ويتعلق عمله بالذاكرة.

أنت لست بحاجة إلى أن تعرف أين أنت ذاهب في هذه الأيام، لأن الساعات الذكية الخاصة بك وسوف تصدر طنين في كل مرة كنت بحاجة إلى تغيير الاتجاه وقريبا لن تحتاج إلى معرفة كيفية القيادة: فسوف تقوم سيارة جوجل بتوصيلك دون  إلى وضع يديك على عجلة القيادة في نهاية المطاف لن تحتاج إلى معرفة أي شيء على الإطلاق. ، وستضع دماغك جانبا..

 في عام 2008 كتب  نيكولاس كار مقال بعنوان "هل جوجل يجعلنا أغبياء؟"، والذي تساءل فيه عما إذا كان الإنترنت يقصر فترات تركيزنا  ويضر بعقولنا. ويستطرد نيكولاس في مقاله قائلا على مدى السنوات القليلة الماضية  كان يلازمني شعورا غير مريح، بأن شخص ما، أو شيء ما، يلعب في  ذهني، ويغير خارطة  الدوائر العصبية ويقوم بإعادة برمجة الذاكرة،، عقلي يتغير,,  أنا أعرف ,, ولكنى غير قادر على تحديد ماهية التغير!! ما أعرفه أنني لم أعد أفكر بنفس الطريقة التي اعتدت التفكير بها. فقديما ، كان من السهل أن أنغمس في قراءة كتاب أو مقال طويل، لكن نادرًا ما يحدث هذا الآن، وعادةً يتشتت تركيزي بعد أول صفحتين أو ثلاث صفحات. أشعر بالملل ويضيق صدري، وينقطع حبل الأفكار، وأبدأ في البحث عن أي شيء آخر أفعله، القراءة العميقة التي اعتادت أن تأتي بشكل طبيعي سلس، أصبحت كفاحًا”. فالإنترنت غيَّر أدمغتنا، بحيث لم نعد نقرأ باستغراقٍ أو انهماك؛ فشبكة الإنترنت تجعلنا أغبياء.

لماذا يحدث كل ذلك ؟ يقول العلماء أن دماغ الإنسان يتمتع بمرونة عالية ويستطيع التكيف مع الظروف المستجدة،  ولقد غيرت التكنولوجيا الحديثة وبخاصة الإنترنيت الدماغ البشري. فلقد أصبحنا اليوم قادرين على القيام بعدة مهام في آن واحد باستخدام الكومبيوتر والأجهزة الذكية، مثل كتابة وصياغة نصوص ،إجراء حوارات عبر الشات في الفيسبوك، وقراءة آخر الأخبار في التويتر. ولكن في الوقت نفسه، نفقد معظم قدراتنا علي الانتباه والتركيز والتأمل والتحليل المعمق، ولن يكون بوسعنا التفكير بهدوء في أمر محدد واحد. وبالتالي يصبح من الطبيعي للأشخاص الذين يقضون ساعات طويلة في تصفح المواقع الإلكترونية ونوافذها الكثيرة وروابطها المتعددة، أن لا يكون لديهم الرغبة في قراءة الكتب الجادة وتأمل محتواها. كما أن الحصول الفوري على المعلومات وتدفق تيارات غزيرة ومتنوعة منها، قد أدى الى انخفاض القدرة على تذكرها وحفظها لمدة طويلة، هذا بالإضافة إلى أن عملية القراءة من الإنترنت تزيد الإجهاد العقلي بشكل كبير. فأثناء القراءة عبر الإنترنت ننهمك بالعديد من النشاطات الأخرى التي لا تتعلق بفعل القراءة نفسه مثل  فتح العديد من المقالات والروابط والقفز بينها، إضافة إلى  الإشعارات والتنبيهات التي تنهمر علينا من كل حدب وصوب. وبالتالي سوف يؤثر هذا على قدرة الدماغ على التركيز ه, حيث سيضطر الدماغ بعد أن تمت مقاطعته إلى العودة ثانية إلى المهمة الأصلية (قراءة المقال مثلا), وهذه العودة تستغرق وقتا معينا recovery time يسميه علماء الأعصاب بـ”تكلفة التنقل” (switching costs), وفي هذا يقول المختصون أن التنقل بين عدة مهام في نفس الوقت يؤدي إلى ازدياد الوقت المخصص لإنجاز المهمة الواحدة بنسبة 25 بالمئة على الأقل.

المياه الضحلة : شبكة الإنترنت تجعلنا سطحيين

التشتت وعدم التركيز في الفراءة  يحولنا  إلى أشخاص سطحيين,  إذ أن  درجة وعمق المعرفة تعتمد على قدرتك على نقل المعلومات من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة بعيدة المدى. عندما تدخل المعلومات إلى الذاكرة بعيدة المدى, عندها فقط تكون قادراً على الاستفادة من هذه المعلومات في حياتك 

 في حالة الفراءة المتعمقة يكون  لدينا تدفق مستمر وثابت ومتسق من المعلومات التي تدخل في الذاكرة قصيرة المدى لتنقل إلى الذاكرة بعيدة المدى, أما في حالة الإنترنت فلدينا العديد وأحيانا العشرات من المشتتات التي  يملأ كل منها  الذاكرة قصير المدى بكمية صغيرة جدا من المعلومات , وهذا يؤدي إلى ظاهرة الإغراق الإدراكي (Cognitive Overload)، حيث تغرق الذاكرة قصير المدى بالمعلومات, ويؤدي هذا إلى تراجع كفاءة الدماغ في حفظ هذه المعلومات, وضعف قدرته على ربط هذه المعلومات  المتنوعة  مع المعلومات السابقة المخزنة لديه وتحويلها إلى معرفة غنية وعميقة, ومن هنا تبدأ السطحية الفكرية بالازدياد.