من الواضح أننا نعيش مرحلة انتقالية، وبعيداً عن التقليل من أهمية الوجود المادي للمعلومات، فمن الملاحظ طغيان الرقمية ووسائل الإعلام القائمة على الساحة؛ حيث يتم في كثير من الحالات إحلال المواد الرقمية كبديل للمعلومات المادية، مثل الكتب والمجلات العلمية و الصحف التي باتت في المعظم تتجه نحو الرقمنة.
هذا المشهد المتغير لنماذج التسليم و قنوات التوزيع وفَّر للناشرين وغيرهم من المشاركين في النظام الإيكولوجي فرصاً جديدة لتوزيع المحتوى وتعظيم الربح، ولو كان هذا على حساب اللاعبين القدامى مثل المكتبات. في الوقت نفسه، فإن هذا المشهد يثير الكثير من قضايا الملكية الفكرية و المخاوف المتعلقة بالخصوصية فضلاً عن الاستفسارات الثقافية والاجتماعية التي تدور حول وضع “الكتابة” و”القراءة” في المستقبل، والأشكال والأساليب الجديدة التي سوف تنشأ. تتفاعل هذه القضايا المنفصلة مع بعضها البعض وتتداخل في كثير من الأماكن، بحيث بدأت تشكل أحد الموضوعات الأكثر انتشاراً حول الرؤية المستقبلية للمكتبة عام 2020، وهذا ما يتضح بشكل جيد من خلال الطرح التالي.
وسط هذا الجو القاتم الذي يُرى في المكتبات مكان لم يعد بذات الأهمية الذي كانت عليه بالسابق، وقبل انتشار الرقمنة، يأتي كتاب “المكتبات في 2020 (Library 2020)”حاملاً مجموعة واسعة من الخبرات، ووجهات النظر التي تلقي زخماً مفعما بالأمل حول مستقبل مشرق للمكتبات. يحمل هذا الكتاب أفكار ورؤى مغايرة لمستقبل المكتبات. المهم،،، عدم التقوقع داخل الصندوق، بل النظر جيدا لما بداخله والانطلاق خارج حدوده ورؤية فضاءات جديدة للعمل.
هناك فرضية تسيطر على عقول الكثير ممن هم في داخل المكتبة أو خارجها على السواء" فرضية المكتبات" المكتبات هي كتب مكدسة على الرفوف... ماذا سيحدث لو كان هناك عدد أقل من الكتب وعدد أقل من الرفوف؟؟؟؟
ألم يستفزك يوما ما مشهد الكتب التي تآكلت بفعل الغبار ولم تلتقطها يد قارئ ما؟ هل جربت بعض الأفكار المبتكرة بعيداً عن الطرق التقليدية التي انتهجناها لسنوات؟ هل جربت الفكرة المجنونة والطعم الذي قد تتذوقه؟
مع أن هذه المكتبة لم يتم قصفها في الحرب العالمية بل تم هجرها بالفعل لتصل لهذا الوضــع إلا أن الصورة ليست قاتمة لهذه الدرجة،،، فالبعض يسأل، ولكنهم قلقون ويخشون. كثيرون يفكرون بشكل جاد في هذا الموضوع ويبحثون عن طرق مغايرة للتوصل إلى الإجابة على السؤال الذي بات هاجسَ العاملين في المكتبات وهو " ما الطرق الخلاقة لجذب المستفيدين إلى المكتبة وتحفيزهم على القراءة؟"
مفهوم المكتبة العامة في عام 2020، سيتجاوز مفهوم المكان والكتب والرفوف، وسوف تكون المكتبة أكثر تركيزا حول ما تفعله للناس بدلاً من ماذا لديها للناس. مع تطور المجتمع وتزايد المحتوى الرقمي، سوف يحصل الناس على المعلومات بطرق مختلفة، وسوف تكون أهمية العناصر المادية أقل مما هي عليه الآن، كما سيتم استخدام مباني المكتبة ومساحاتها بطرق مختلفة، وستعتمد المكتبة سياسات تقديم الخدمات افتراضياً وخارج حدود المكتبة. المكتبة ستكون كيان مجتمعي محفز لتسهيل المشاركة المجتمعية والتعلم والتطور للأفراد من مختلف الأعمار.
توسيع التواجد المؤثر والفعال للمكتبات
جرت العادة أن يكون الدافع وراء الخدمات التي تقدمها المكتبات العامة هو رغبات المستخدمين الذين يمرون عبر أبوابها المفتوحة أمامهم. كما كان أمناء المكتبات هم المسئولون بالمقام الأول عن الرد على استفساراتهم باستخدام المواد المطبوعة التي يتم جمعها بعناية لتكون مصدراً للاستجابة لمثل هذه الاستفسارات. يزور الأطفال الصغار وأسرهم المكتبة لحضور حلقات رواية القصة. بينما يطالع الآخرون الرفوف للعثور على المعلومات لتلبية حاجة أو بحث هو مُجبر عليه. بعبارة أخرى، جاء الناس إلى هذا المكان للحصول على الخدمة.
مع مرور الوقت ومع تفعيل خدمة الهاتف في المكتبات، توسعت إمكانيات الوصول إلى المكتبة، وأصبح بإمكان المستفيدين الحصول على المعلومات دون الحاجة إلى زيارة المكتبة.
تقنية الكمبيوتر كانت إيذاناً ببدء حقبة جديدة بالكامل للخدمات التي تقدمها المكتبة وأصبحت الأقراص المدمجة أحد العناصر الرئيسية لمصادر المعلومات. تدريجياً بدأ الانترنت يفرض منحى جديداً للحصول على المعلومات التي بدأ طالبوها بالاطلاع عليها عبر الإنترنت بدلاً من الرفوف. الخدمات المرجعية المطلوبة من قبل أمناء المكتبات أصبحت أقل، كما تحولت موارد الطباعة تدريجياً إلى صيغ رقمية، مما يتيح للأفراد للوصول إلى المعلومات بأنفسهم، في أي وقت أو في أي مكان، دون الحاجة إلى الذهاب من خلال "حارس البوابة" أمين مكتبة.
مع تزايد انتشار وسائل الإعلام الاجتماعي، سوف تكون هناك حاجة لتوفير محتوى المكتبات التي يمكن استخدامها على كل ما هو متوفر من أجهزة رقمية بمختلف أشكالها. هذا يعني أنه سيكون هناك عدد أقل من الكتب المطبوعة على الرفوف وزيادة المحتوى الرقمي على شبكة الإنترنت، والتي سيتم إعارتها ومشاركتها والتعامل معها كما هو الحال مع المواد المطبوعة. من الواضح أن السنوات القادمة ستدفع بالناشرين، والمؤلفين، وموفري المحتوى، مثل الأمازون، إلى الاعتراف بالمكتبات كخيار أمثل لتوزيع المحتوى الرقمي ومساعدتهم على تحقيق أقصى قدر من الأرباح وزيادة التعريف بالمؤلفين وأعمالهم، مما يعني تلك المهام التي كانت تفعلها المكتبات على مدى القرن الماضي!
مع استمرار هذه الاتجاهات في التطور، ومع استمرار قيام المكتبات بدور أقل في الوصول إلى الشكل المادي للمعلومات تتسع فرص المكتبات لاتخاذ أدوار تجعل منها موضع تقدير لأهميتها للمجتمع كمكان اجتماعي يعزز المواطنة والتعلم والتمكين الاجتماعي.
نضع هنا تجربة مكتبة كينغ كاونتي King County Library System (KCLS) في واشنطن لتكون نموذجاً لتحول المكتبة إلى مكان اجتماعي يتيح فضاءات للتعلم وتعزيز المواطنة.
المكتبة مكاناً للتعلم
مع إتاحة قدر كبير من التقنيات الجديدة، تصبح المكتبة المكان الملائم لتعلم الاستخدام الأمثل لهذه التقنيات سواء بالذهاب إلى المكتبة جسدياً أو افتراضياً. فمنذ بدأ الانفجار الهائل في مبيعات القارئ الإلكتروني، تمتلئ فروع مكتبة KCLS بالناس الذين يرغبون في تعلم كيفية استخدام هذه التقنيات الجديدة. مجموعات النقاش وسلسلة المحاضرات تخلق نموذجاً عظيماً للتعلم مدى الحياة، خاصة بالنسبة لأبناء جيل الطفرة Baby Boom Generation ذلك المصطلح الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية - أحيانا تجده في كتب الإدارة - حيث يشير إلى الطفرة الكبيرة التي حدثت في المواليد بعد الحرب العالمية الثانية حيث زاد عدد المواليد كثيراً لمدة عدة سنوات بعد الحرب. أبناء هذا الجيل يفوقون في العدد من سبقهم ومن يليهم وهم الآن يقاربون الستين من العمر، مما يعني أنهم على وشك التقاعد في السنوات القادمة. هذا الجيل هم أكثر احتياجاً من الأجيال التي تَلتهُم لتعلم كيفية التعامل مع التكنولوجيات المستحدثة، فَهُم الجيل الذي اعتاد على أداء الكثير من المهام دون استخدام التقنية، بعكس الأجيال الجديدة التي ترعرعت في كنف التقنية. العديد من المكتبات توفر الآن دروس اللغة الإنجليزية خاصة لأولئك الناس الذين تعد اللغة الإنجليزية بالنسبة لهم ليست اللغة الأم، برامج المهارات الحياتية تحظى الآن بشعبية كبيرة في المكتبات. تستطيع المكتبات أن تقدم خدمات لا تعد ولا تحصى لأفراد المجتمع، ذلك يؤهلها لأن تكون حاضنة لأجيال متعددة على مدار السنوات القادمة.
استضافة الخطاب المجتمعي
تتخذ المكتبات العامة طابع المحايدة، من خلال توفير المعلومات التي تمثل وجهات نظر مختلفة. كما أن امتلاكها لمصادر المعلومات وتواصلها مع شرائح مجتمعية متعددة يجعل منها الساحة المثالية لإشراك المجتمع في الخطاب المدني والقضايا المجتمعية الهامة. مع تراجع مصادر الأخبار المحلية، سيكون من المنطقي أن تقوم الحكومات المحلية، ومقدمي الخدمات، وقادة المجتمع بتحويل المكتبة إلى مكان للمناقشة والتعليق على القضايا التي تؤثر في الجمهور. في نفس الوقت، هذا الدور يتفق مع تصور الجمهور للمكتبات كمصدر موثوق للمعلومات والمشاركة المجتمعية الهادفة.
خمسة أدوار قيادية للمكتبات العامة لتوسيع وتعميق إسهامها في إرساء المواطنة والمشاركة المجتمعية:
١. المربِّي المدني: من خلال رفع الوعي المدني والاهتمام بالتربية المدنية، وإعلاء المشاركة والمسئولية المدنية.
٢. مفتاح البدء لحوار مجتمعي: من خلال تحديد قضايا المجتمع العالقة وإنشاء منتديات لتبادل الآراء، ووضع استراتيجيات العمل.
٣. التجسير: من خلال التقريب بين الناس، بما في ذلك الحكومة المحلية والمسئولين والمنظمات ذات وجهات النظر المختلفة، وذلك لبناء مجتمعات أقوى.
٤. الإسهام في تحقيق الحلم: من خلال الجهود الرامية إلى تطوير رؤية واسعة وشاملة للمجتمع.
٥. مركز فاعل للديمقراطية: من خلال الحديث، والتفكير، والعمل بوصفها مكان يُمكن الديمقراطية، والمشاركة المدنية، والخطاب العام المجتمعي.
دعم ومساندة الطلاب
اثنان من المجالات الحيوية الأخرى التي ستحدد دور المكتبات العامة في العقد المقبل وهما:
-
دورها في دعم الاحتياجات المعلوماتية لطلاب مراحل الـ K–1، والمقصود هنا بـ k-12 هو سنوات التعلم ما قبل الجامعي ( الابتدائي-الإعدادي-الثانوي ) وأهم ما يميزها استخدام استراتيجيات تعلم مبتكرة تعتمد على سبيل المثال وليس الحصر Game Based Learning أو التعلم باللعب.
-
دورها في قيادة حراك مجتمعي يدعم الجهود المجتمعية لمحو الأمية في مرحلة الطفولة المبكرة .
يمكن للمكتبات العامة المساعدة في تلبية احتياج الطلاب للمعلومات، والتي تأثرت بتآكل التمويل للمكتبات المدرسية، من خلال العمل بشكل وثيق مع أمناء المكتبات المدرسية والمعلمين لمساعدتهم على استخدام المعلومات التي تتناسب واحتياجات المناهج المدرسية وتمكينهم من الوصول إليها. يتم ذلك من خلال جمع المواد المرجعية الرقمية في مجموعات المكتبة العامة لتناسب احتياجات محددة أو موضوعات محددة.
تسمح برامج الخدمة الممتدة والتي صممت لكي تكون مختبرات للتعلم النقال، بما تحتويه من أجهزة وبرمجيات لموظفي المكتبة الوصول إلى أعداد كبيرة من الطلاب في المدرسة و بعد الدوام المدرسي.
تقديم المكتبة خدمة الدروس الخصوصية المجانية هو موضوع يثار الكثير من الجدل حوله، فهناك من هم مع، وهناك من هو ضد، إلا أن مكتبة KCLS كانت ممن تبنى تقديم خدمة الدروس الخصوصية المجانية بعد انتهاء اليوم الدراسي وفي عطلات نهاية الأسبوع حيث يمكن للطلاب العمل مع مشرفين على موضوعات ذات علاقة بالمنهاج الدراسي.
من تجربتي أستطيع أن ألمس الإقبال الشديد على البرامج التي تتقاطع مع المناهج الدراسية للأطفال، حيث يتحمس الأهالي لإشراك أبناءهم في مثل هذه البرامج لقناعتهم بأن مثل هذه البرامج تعزز التقدم الدراسي لأبنائهم. كما يتحمس الأطفال للانخراط في مثل هذه البرامج لأنهم يرون فيها طريقة مغايرة للتعليم الذي يتم في المدارس.
تشير الدراسات إلى أن قدرة الطفل على القراءة والتعلم تبدأ في التكون في سن الخامسة. ذلك أدى إلى توجه العديد من المنظمات المجتمعية والمنظمات غير الربحية إلى تركيز الجهود حول موضوع النمو في مرحلة الطفولة المبكرة ومحو الأمية. تستطيع هذه المنظمات أن تعمل بشكل وثيق مع أمناء مكتبات الأطفال، الذين لديهم خبرة كبيرة في مجال التنمية في مرحلة الطفولة المبكرة، من خلال برامج ثقافة الأسرة الذي تهدف بالدرجة الأولى إلى:
-
تعزيز دور الأهل بصفتهم المعلم الأول للطفل.
-
تعزيز دور الأسرة في تشجيع حب القراءة لدى الأطفال.
-
مساعدة الأهالي للقيام بدورهم أثناء مراحل نمو الطفل من الميلاد وأثناء سنوات الدراسة.
-
تقوية الروابط الأسرية من خلال مشاركة الأهل والطفل في أنشطة مشتركة.
-
تعزيز ودعم مهارات التعلم مدى الحياة.
-
تحصيل دراسي مميز عند الالتحاق بالمدرسة، فقد أشارت ( 53 ) دراسة أن إشراك الأهل في عملية تعلم الطفل، تساعد الأطفال على أن يبدؤوا مسيرتهم المدرسية بصورة منتظمة، كما تنمو لديهم اتجاهات نحو إكمال المراحل الدراسية .
أمين مكتبة المستقبل
أمين مكتبة المستقبل سوف يقضي وقتاً أقلَّ في التعامل مع الجوانب المادية من المحتوى، على سبيل المثال، وضع العلامات، والترفيف، أو التحقق من العناصر، سوف يكون هناك المزيد من الوقت ليعمل كمستشار لعامة الناس التي تتواصل مع المكتبة سواء فيزيائيا أو افتراضياً. بدلاً من العمل كحارس لمقتنيات المكتبة. وسوف يكون بحاجة إلى امتلاك القدرة على تمشيط كميات كبيرة من البيانات لمجرد العثور على المعلومات الصحيحة . فهم احتياجات المستخدمين وربط هذا الفهم بالمحتويات ذات الصلة ستشكل فن مكتبات المستقبل.
من الضروري أن تظل المكتبة العامة على صلة وثيقة بالأفراد التي تقدم الخدمات لهم. في المستقبل، سوف يكون هناك توجه أقل للمكتبات حول عدد الخدمات في مقابل المزيد من الجهد حول البحث عن نوعية الخدمة. البحث عن رغبات المستفيدين وأنماط السلوك للبحث عن المعلومات التي بدأ ينتهجها المستفيدون ستكون عوامل حاسمة في هذا الجهد، مما سينعكس على ضرورة تعزيز مهارات وتقنيات التسويق و خدمة العملاء لدى العاملين في المكتبات، ذلك من أجل المحافظة على البقاء في الطليعة و تحسين تجربة المستخدمين وضمان الإبقاء على قيمة المكتبة للجيل القادم .
خطوات عملية لتمكين المكتبات:
1. انطلق خارج جدران المكتبة، وابدأ في البحث عن علاقات ناجحة مع المجتمع، فالمكتبة الناجحة هي التي تتخذ خطوات استباقية.
2. ابحث عن القادة، ابدأ بالعمل على تضافر الجهود لاكتشاف من هو الذي الشخص الذي يحظى بشعبية مجتمعية بين جميع الفرق.
3. فكر في مبادرات خلاقة يمكن أن تساهم المكتبة فيها.
4. اكتشف وساهم في القدرات والظروف الفريدة للمجتمع.
5. اجعل مبنى المكتبة مركز المجتمع.
6. اخلق ثقافة التفكير المجتمعي بين موظفي المكتبة والمتطوعين.
7. ادعم استثمارات المكتبة التي ترمي إلى تطوير المجتمع .
إعداد: هيــام الحايك، كاتبة بمدونة نسيج
المصادر: http://lj.libraryjournal.com/2013/09/future-of-libraries/the-library-as-catalyst-for-civic-engagment-reinventing-libraries/