الأخبار المزيفة وإنتاج المحتوى المضلل بهدف التأثير على الرأي العام ليس بالأمر الجديد، بل هو ظاهرة ذات جذور تاريخية معمقة. ففي عام 1834، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالات كاذبة تصف القمر بأنه مليء بالنباتات والحيوانات، موقعة باسم العالم المزعوم أندرو جرانت، الذي لم يكن له وجود. وفي عام 1938، تسبب إعلان أورسون ويلز عن غزو فضائي في بثه الإذاعي بذعر كبير بين السكان.
في العصر الحديث، شهدنا انتشارًا واسعًا للأخبار الزائفة، خاصة في عام 2019 مع ظهور كوفيد-19، التي خلقت بيئة خصبة لتدفق الادعاءات المضللة بشكل كبير. في عام 2024، بلغ الأمر الذروة، حيث أن قدرة الذكاء الاصطناعي على تصنيع وتوزيع المحتوى بسرعة وكفاءة جعلت من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال. وعندما يصبح التفريق بين الأخبار الحقيقية والزائفة تحديًا هائلًا، لابد من السعي نحو حلول فعالة. والمكتبات وأخصائي المعلومات هم الجهات الأكثر تأهيلًا للتصدي لهذا التحدي، إذ يمتلكون الخبرة والموارد اللازمة. وفي هذا الصدد، تقول ميشيل أوباما: "المكتبات هي الضوء الذي يوجه الناس في بحر المعلومات، مما يساعدهم على الوصول إلى المعرفة الحقيقية وتجنب التضليل."
في هذا المقال، سنعرض لأهمية محو الأمية الإعلامية في عام 2024، ودور المكتبات في تعزيز هذه المهارات، بالإضافة إلى الأمثلة الناجحة من المبادرات التي أطلقتها المكتبات لتعزيز التفكير النقدي والوعي الإعلامي.
مفهوم محو الأمية الإعلامية في عام 2024
وفقًا للرابطة الوطنية لتعليم محو الأمية الإعلامية، فإن محو الأمية الإعلامية هو القدرة على الوصول إلى جميع أشكال التواصل، وتحليلها، وتقييمها، وإنشائها، والتصرف بناءً عليها. وهي جزء واحد فقط من شجرة محو الأمية. ولكن عندما نتحدث عن محو الأمية الإعلامية في عام 2024، فإن الأمر يتجاوز التعريف التقليدي. يشمل ذلك تقييم تأثير التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي على إنتاج واستهلاك المحتوى، وفهم كيفية تأثير الخوارزميات على المعلومات التي نراها، والقدرة على التمييز بين الحقائق والمعلومات المضللة. إضافةً إلى ما سبق، يتناول محو الأمية الإعلامية في 2024 دور الذكاء الاصطناعي في السياسة والإعلام وتأثيره على صنع القرار والرأي العام. يشمل ذلك القضايا الأخلاقية المتعلقة بالتلاعب بالمعلومات والأخبار الزائفة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يجعلنا عرضة للأخبار والمعلومات المضللة؟
في هذا السياق، يقول ماركو فيراري، الخبير المخضرم في مجال الاتصالات والتسويق: من المؤكد أن تركنا وحدنا أمام سيل من المعلومات المتغيرة والمتدفقة باستمرار في البيئة الرقمية الحديثة يعرضنا لقصف متواصل من البيانات والأخبار والمحتويات المتنوعة. هذه الوفرة الهائلة في المعلومات، والتي تصلنا من مختلف المصادر والمنصات الإعلامية والاجتماعية، تشكل ضغطًا معرفيًا هائلًا على أذهاننا. نتيجة لذلك، نميل إلى تطوير مجموعة من التحديات المعرفية والنفسية التي تجعلنا أكثر عرضة للوقوع في فخ الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة. هذه التحديات تشمل:
-
الحمل المعرفي الزائد Cognitive Overload: حيث يتم إرهاق دماغنا بكمية ضخمة من المعلومات التي تتدفق علينا بسرعة، مما يعيق قدرتنا على التركيز والتحليل.
-
الانحياز التأكيدي Confirmation Bias: الميل الطبيعي لدينا لتأكيد معتقداتنا السابقة وتجاهل المعلومات المتناقضة معها، مما يعزز من احتمالية تعرضنا للخداع.
-
تأثير القطيع Sheep Effect: تزايد ميلنا لتبني وجهات النظر التي يعتنقها الجمهور العام دون تمحيص، استنادًا إلى شعور زائف بالأمان الجماعي.
-
التأثير العاطفي Emotional Impact: الاستجابة العاطفية القوية للأخبار المثيرة، مما يعطل قدرتنا على التفكير النقدي والتحليل المنطقي.
-
تأثير فقاعة التصفية Filtering Bubble Effect: التقييد الذاتي لعالمنا المعرفي من خلال الاعتماد على الخوارزميات التي تحدد ما نراه بناءً على تفضيلاتنا، مما يعزز من تعرضنا لمعلومات متحيزة ومحدودة.
كل هذه العوامل تعمل بشكل مترابط على إضعاف قدرتنا على التمييز بين الحقيقة والزيف، وتجعلنا أهدافًا سهلة للتضليل الإعلامي.
محو الأمية الإعلامية: التحديات والفرص
يواجه العالم تحديات متزايدة تتعلق بمحو الأمية الإعلامية نتيجة للتدفق الهائل للمعلومات والأخبار عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. أمام هذا السيل الجارف من المعلومات، يصبح من الضروري أن نعزز مهارات محو الأمية الإعلامية لمواجهة هذه التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة. سنستعرض في هذا السياق أبرز التحديات التي تفرضها هذه الظاهرة، بدءًا من انتشار الأخبار الزائفة والمضللة، وصولًا إلى التأثير العميق لهذه المعلومات على الرأي العام واتخاذ القرارات. كما سنلقي الضوء على الفرص الكبيرة التي يتيحها تعزيز مهارات محو الأمية الإعلامية، والتي تشمل تمكين الأفراد من التمييز بين الحقائق والأكاذيب، وتعزيز التفكير النقدي، وتطوير مجتمع واعٍ ومستنير قادر على التفاعل بفعالية وإيجابية مع المحتوى الإعلامي.
أولاً التحديات:
تواجه محو الأمية الإعلامية العديد من التحديات في عام 2024، ومن أبرزها:
-
الانتشار السريع للأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة:
مع تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت، أصبح من السهل نشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة بسرعة هائلة. فالنمو المتسارع للأخبار المزيفة مدفوع بالتقدم التكنولوجي، حيث وصل عدد مستخدمي الشبكات الاجتماعية العالمية إلى رقم قياسي بلغ 4.4 مليار شخص (مع وصول عدد مستخدمي فيسبوك إلى أكثر من 2.8 مليار). ومن المتوقع أن يرتفع عدد المستخدمين إلى 5 مليارات بحلول عام 2026 (Statista. هذا الاعتماد المتزايد على المنصات الاجتماعية أثر بشكل كبير على وسائل الإعلام التقليدية، التي اضطرت للتحول من نموذج البث التقليدي إلى نموذج اجتماعي لا يشمل دور المحرر. في هذا النموذج الجديد، تُنشر المواد الإعلامية دون أي مرشح أو فحص مسبق، مما يسمح لأي شخص بنشر أي شيء. ونتيجة لذلك، يتم تدفق كميات ضخمة من المعلومات غير المفلترة إلى الفضاء الرقمي. هذا يسهل انتشار الأخبار المزيفة وحملات التضليل المنظمة، التي قد تسبب فوضى وزعزعة الثقة في المؤسسات الإعلامية التقليدية. يؤكد تقرير IFLA لعام 2024 على أن التحديات الرقمية المستمرة تتطلب مهارات متقدمة للتحقق من صحة المعلومات. يتعمق التقرير في تعقيدات المشهد الرقمي المتطور، مشددًا على الحاجة الماسة للأفراد لامتلاك مهارات للتحقق من المعلومات، لتقييم المصداقية، والتنقل بمسؤولية في المشهد الرقمي الواسع. يعد التقرير دعوة للمعلمين وصانعي السياسات والمجتمع ككل للعمل على إعطاء الأولوية لمحو الأمية المعلوماتية وغرس ثقافة الاستفسار النقدي في العصر الرقمي.
-
تأثير الخوارزميات والمحتوى المخصص:
يمكن للخوارزميات المستخدمة في منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث والخدمات عبر الإنترنت أن تضخم انتشار المعلومات المضللة عن غير قصد بسبب عدة عوامل. فكما أشرنا في فقرة سابقة، تقوم هذه الخوارزميات بتخصيص المحتوى بناءً على تفضيلات المستخدم وسلوكه السابق، مما يؤدي إلى تعزيز المعتقدات الحالية وتجاهل الآراء المعارضة في فقاعات تصفية. كما تعطي الأولوية للمحتوى الذي يثير استجابات عاطفية قوية مثل الغضب أو الخوف، مما يشجع على نشر المحتوى المثير أو المضلل. بالإضافة إلى ذلك، قد لا توفر السياق أو الدقة اللازمة، مما يؤدي إلى سوء تفسير القضايا المعقدة. تعمل الخوارزميات أيضًا على تضخيم المحتوى الذي يكتسب زخمًا سريعًا، حتى لو كان مضللًا، وتستخدم الإعلانات المستهدفة لتقديم معلومات مضللة مخصصة لمجموعات أو أفراد محددين بناءً على بياناتهم الشخصية.
-
النقص في التعليم والتدريب:
هناك نقص في البرامج التعليمية الفعالة لمحو الأمية الإعلامية في العديد من المؤسسات التعليمية. يشير تقرير من Public Libraries Online إلى أن المكتبات تواجه تحديات كبيرة في تقديم برامج تدريبية بسبب نقص الموارد والتمويل. هذا يؤثر بشكل مباشر على قدرة الأفراد على تقييم المعلومات بشكل نقدي واستخدامها بفعالية. لتعزيز محو الأمية الإعلامية، من الضروري توفير الدعم المالي والموارد اللازمة للمكتبات والمؤسسات التعليمية لتنفيذ برامج تدريبية فعالة. يمكن أن تشمل الحلول الممكنة الشراكات مع المنظمات غير الربحية، والحصول على تمويل حكومي، وتطوير مواد تعليمية رقمية ابتكارية.
ثانياً: الفرص
في ظل هذه التحديات، تظهر العديد من الفرص لتعزيز محو الأمية الإعلامية:
-
التكنولوجيا الحديثة والتعليم التفاعلي:
يمكن للتقنيات الحديثة أن تعزز من فعالية تعليم محو الأمية الإعلامية.، حيث تتيح تقنيات الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) لطلاب التفاعل مع المواد التعليمية بطرق مبتكرة، مثل تحليل الإعلانات والمقالات الإخبارية من خلال طبقات معلومات إضافية تظهر على شاشات أجهزتهم. على سبيل المثال، تهدف مبادرة "تاك تو ميديا- TTMI " إلى تعزيز محو الأمية الإعلامية بين طلاب المدارس من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية. تعمل المبادرة على تثقيف الطلاب والأسر والمعلمين حول إنشاء المحتوى واستهلاكه بشكل مسؤول، وفهم الإعلام بشكل نقدي. تقدم TTMI برامج تعليمية وورش عمل تشمل تحليل المحتوى الإعلامي وإنشاء أفلام قصيرة، مما يعزز التفكير النقدي ومهارات المواطنة المسؤولة لدى الشباب. كما تنظم المبادرة مهرجانات أفلام لعرض أعمال الطلاب وتشجيع الحوار المجتمعي حول محو الأمية الإعلامية
-
الشراكات المجتمعية:
تعد مكتبات شيكاغو العامة مثالاً بارزًا في هذا السياق، حيث تتعاون مع المدارس المحلية لتقديم برامج تعليمية موجهة للشباب. تهدف هذه البرامج إلى بناء جيل واعٍ قادر على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وذلك من خلال تقديم ورش عمل وبرامج تدريبية تركز على كيفية تحليل وتقييم مصادر المعلومات، و نقد الأخبار والتحقق من صحتها باستخدام مصادر موثوقة، وكذلك كيفية استخدام قواعد البيانات الأكاديمية للوصول إلى معلومات دقيقة ومعتمدة. علاوة على ذلك، تتعاون مكتبات شيكاغو مع وسائل الإعلام المحلية لتنظيم ندوات وحلقات نقاشية تسلط الضوء على أهمية الصحافة الحرة وطرق مكافحة الأخبار الزائفة. من خلال هذه الشراكات، تسعى مكتبات شيكاغو إلى تعزيز الوعي الإعلامي وتشجيع التفكير النقدي بين أفراد المجتمع، مما يسهم في إنشاء مجتمع أكثر اطلاعًا واستنارة.
-
تبنى المؤسسات التعليمية مبادرات التفكير النقدي:
عندما نتنقل في العالم الرقمي، يظهر التفكير النقدي وتدقيق الحقائق كبوصلتنا، التي ترشدنا عبر تعقيدات هذا العالم الرائع عبر الإنترنت. ولذلك فإن التفكير النقدي يقع في قلب المعلومات المسؤولة واتخاذ القرارات المستنيرة. هذه أداة ستمكن الأشخاص من تحليل المعلومات، ورفع وجهات النظر المختلفة، والحصول بشكل أساسي على وصول جيد إلى المصادر، والنظر في المعلومات الحقيقية أو المضللة في العالم الرقمي. المعلومات المضللة هي أكبر التهديدات للخطاب العام في جميع مجالات الحياة وهي مهمة جدًا من حيث التلاعب السياسي، وبالتالي فهي عدو حقيقي للديمقراطية. تلعب مؤسسات التعليم العالي دوراً محورياً في تنمية مهارات التفكير النقدي. إن دمج الثقافة الإعلامية وتقييم المعلومات في المناهج الدراسية يمنح الطلاب الأدوات اللازمة للتنقل في المشهد الرقمي بمسؤولية. يدفع التفكير النقدي الأفراد إلى التحقق من المعلومات قبل مشاركتها. والمساهمة في ثقافة يتم فيها تقدير الدقة والموثوقية. إن ظهور صحافة المواطن يمكّن الأفراد من المشاركة بنشاط في نشر المعلومات. ومع ذلك، فإن هذه القوة المكتشفة حديثًا تأتي مصحوبة بمسؤولية الحفاظ على النزاهة الصحفية. مهارات التفكير النقدي توجه الصحفيين المواطنين في فحص مصادرهم، وضمان توافق مساهماتهم مع المعايير الأخلاقية.
دور المكتبات الجامعية في تعزيز محو الأمية الإعلامية
تلعب المكتبات دوراً حيوياً في تعزيز محو الأمية الإعلامية، حيث تُعتبر مركزاً رئيساً لتوفير الموارد التعليمية وتنظيم البرامج التدريبية التي تهدف إلى تحسين مهارات التفكير النقدي وتحليل المعلومات. من خلال توفير الكتب والمجلات والموارد الإلكترونية، تُساعد المكتبات الأفراد على الوصول إلى مصادر موثوقة ومتنوعة للمعلومات، مما يعزز قدرتهم على التمييز بين الأخبار الحقيقية والمزيفة. وفقًا لتقرير Public Libraries Online، تقوم المكتبات بتنظيم ورش عمل وبرامج تعليمية تركز على كيفية التحقق من صحة الأخبار والتعامل مع المعلومات المضللة. على سبيل المثال، نظمت مكتبات في تكساس ورش عمل تحت عنوان "ما الأخبار الكاذبة؟" والتي اجتذبت العديد من المشاركين وساعدتهم على فهم كيفية تقييم مصادر المعلومات وتحليلها بشكل نقدي، ضافة إلى ذلك، تستفيد المكتبات من التقنيات الحديثة مثل الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) لتقديم تجارب تعليمية تفاعلية ومبتكرة. مكتبة نيويورك العامة تُعد مثالاً بارزاً على استخدام هذه التقنيات، حيث تقدم جولات تفاعلية ومعارض افتراضية تساعد الرواد على استكشاف المعلومات بطرق جديدة وممتعة، مما يعزز فهمهم العميق للمحتوى الإعلامي. كما تُسهم المكتبات الجامعية بشكل كبير في تعزيز محو الأمية الإعلامية من خلال دعم تطوير مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.
في نهاية المقال،
من الواضح أن مواجهة تحديات المعلومات المضللة تتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف، والمكتبات هي خط الدفاع الأول في هذه المعركة. ومن خلال تعزيز محو الأمية الإعلامية، نخطو خطوة كبيرة نحو مجتمع أكثر وعيًا واستدامة..