تكلمنا في تدوينة سابقة عن التعلم المعكوس (المقلوب) والفصول المعكوسة، وذكرنا كيف انتشرت أكاديمية خان التعليمية وذاع صيتها بين الأوساط التعليمية على مستوى العالم لما توفره من محاضرات مرئية سهلة الاستخدام. وقد سجلنا بعض الانتقادات للفصول المعكوسة بأنها أنها لا تزيد عن ترك الطلاب يعلمون أنفسهم بأنفسهم. في الواقع، لا ينبغي أن يبدو التعلم المعكوس وكأنه مجرد واجبات تعهد إلى الطلاب لينجزوها بأنفسهم بعيدا عن المعلم. بل إنها مثل أي منهج تربوي آخر، تنطوي على الشراكة والتفاعل بين الطالب والمعلم الذي يركز بدوره على خبرات تعلم هامة داخل الفصل، حيث يفتح التعلم المعكوس الباب على مصراعيه أمام مثل هذه الخبرات.
ومن الانتقادات الموجهة إلى التعلم المعكوس :
"إني أعمل في إحدى كليات المجتمع.حيث أن أكثر الطلاب يلتحقون بها نظرا لحاجتهم إلى مزيد دعم ومساعدة.ومن الخطأ القول بأن كل شخص يستطيع أن يتعلم بنفسه.إذا كان بمقدور الطلاب تنظيم تعلمهم بأنفسهم، فعلى الأرجح لن يكونوا من دارسي اللغة الإنجليزية أو الرياضيات.قد ينجح هذا الأسلوب مع الطلاب الأوفر ذكاءً، والأكثر تحفيزاوهذا النموذج لا يجدي مع الطلاب الذين يحتاجون إلى التدريس الفعلي لتعلم مفاهيم تختلط عليهم.
يضم هذا التعليق جملة أساسية:"من الخطأ القول بأن كل شخص يستطيع أن يتعلم بنفسه." دعونا نفكر قليلا في أهم خمسة أشياء تعلمناها في حياتنا.وهنا أقصد حياتنا كلها.أقصد خمسة أشياء بدونها تصبح قدرتنا على الاستمرار كبشر على المحك.ابدأ الآن وفكر جيدا.
بالنسبة لي أنا، الأشياء الخمسة هي:
- التحدث والقراءة بلغتي الأم (أعلم أنهما اثنان، لكن اجعلهما شيئا واحد في الوقت الحالي).
- الذهاب إلى الحمام بدون مساعدة.
- تناول طعامي دون مساعدة.
- المشي.
- الانصات إلى الآخرين وفهم ما يقولون.
قد تكون هناك أشياء أخرى أكثر أهمية لكني لا أتذكرها، لكن من الصعب التفكير في هذه الأشياء إذ أنها تشكل نظام التشغيل لما تبقى من حياتنا – حيث تعمل هذه المهارات وتنمو هذه السلوكيات في الظل، وتمكن كل شيء عداها.وهذا ما أعنيه بنعتي لها بأنها "هامة".
ماذا عن قائمتك أنت؟
إذا ضمت قائمتك نفس هذه الأشياء الخمسة، فهذ الأشياء لا يمكن تعلمها بسهولة.أعلم أنها ليست سهلة لأن لدي ثلاثة أطفال، أصغرهم (عمره 5 سنوات) قدتعلم مؤخرا أكثر البنود المدرجة على قائمتي أنا.ويجد بعض الأطفال صعوبة في تعلم هذه الأشياء أكثر من غيرهم.مثلا، لاحظنا تأخرا كبيرا في نمو ابنتي البالغة من العمر 8 أعوام وهي في سن 13 شهرا.فقد استغرقت وقتا أطول من أخيها وأختها لإتقان بعض مهارات التناسق البدني البسيطة.فلم تكن لديها مهارة المشي، ولم يكن لديها أي حافز على المشي، أو تناول الطعام، أو أي شيء آخر يتطلب تناسقا بدنيا.لكنها الآن تتقن هذه المهارات باحتراف.
وهذا يأخذني إلى المسألة التي نحن بصددها.تأمل البنود الواردة في القائمة الخاصة بك.لقد تعلمت هذه الأشياء بطريقة أو بأخرى، وإلا لما ذكرتها من الأساس.السؤال إذا هو، كيف تعلمتها؟ ما هي الإجراءات التي تعلمت هذه الأشياء بها؟
كيف تعلمت هذه الأشياء؟
من جانبي أنا، لا علم لدي، حيث كنت صغيرا جدا حتى أتذكر، إلا أن أطفالي لم يتعلموا المشي، أو الكلام، أو تناول الطعام على يد معلم يحاضرهم حول كيفية المشي، أو الكلام، أو القراءة، أو تناول الطعام.لم يتعلموا بعد خضوعهم لاختبار في المشي، أو الكلام، أو القراءة، أو تناول الطعام.كما أنهم لم يتعلموا عن طريق متابعة أمثلة نموذجية لهذه الأشياء – مع أن مثل هذه الأمثلة مفيدة جدا.فقد تعلم أطفالي هذه المهارات الأساسية عن طريق القيام بها، ثم الإخفاق فيها، ثم تكرار المحاولة – متعلمين من أخطائهم - حتى أتقنوها على النحو الصحيح.باختصار – لقد علموا أنفسهم بأنفسهم.
من هنا، ردي على هذا التخوف هو: الخطأ بعينه هو القول بعدم قدرة الطلاب على التعلم بأنفسهم.فليس بمقدور الطلاب التعلم بأنفسهم وحسب، بل لقد تعلموا أهم المهارات في حياتهم بأنفسهم.
هل لا يتوافر لدى الطلاب القدرة على التعلم الذاتي؟
فليس ثمة سبب يدعو إلى القول بأنهم قد فقدوا أو حُرموا من هذه القدرة الأساسية على التعلم الذاتي.ولا يهم إذا كان الطالب في كلية المجتمع، أو المدرسة الثانوية، أو الصف الخامس، أو في المَهْد.ولا يهم إذا كان يتوافر لدى الطالب الحافز إلى التعلم، أو يتمتع بالذكاء، أو الغباء أو الكسل.ولا يهم إذا كان عمر الطالب 5 سنوات أو بلغ من العمر 75 عاما.الحقيقة الراسخة هي أن القدرة على التعلم الذاتي بنية أصيلة في فطرة الإنسان – بل إنها من مميزات الكيان الإنساني عن باقي المخلوقات.لذا فإن القول بعدم قدرة الإنسان على التعلم الذاتي يعادل تجريد الإنسان من إنسانيته.
دعوني هنا أقنن أكثر ماذا أعنيه بقولي "يعلم نفسه بنفسه"هل هذا يعني التعلم بمعزل تماما عن الآخرين؟ليس هذه هو المقصود أبدا؛حيث أن فهمي لأسلوب تعلم الأطفال للغة، على سبيل المثال، هو أنهم يتعلمون بتقليد لغة البالغين.هكذا تعلم أطفالي – بقراءة الكتب عليهم، ومساعدتهم على نطق الكلمات، وهكذا."التعلم الذاتي" لا يعني أبدا التعلم دون أي مساعدة أو توجيه.في واقع الأمر، ليس من الممكن تعلم كل شيء بمعزل عن توجيه ودعم الخبراء.
وللأسف، يتنشر هذا الفهم الخاطئ عن الفصول المعكوسة.حيث ينظر إلى "التعلم الذاتي" بأنه يتم بعيدا عن دعم المعلم وتوجيهه.لقد ذكرت من قبل قصة عن محاولتي تعليم صديق لي لعبة معينة بمجرد إعطائه كتيب الإرشادات وتركه بتعلمها بمفرده.أيا كان هذا السلوب، فهو لا يمت إلى "التعلم المعكوس" بصلة.وكما ذكرت، فإن التعلم المعكوس – مثلة مثل أي منهج تربوي فعال – يتألف من المشاركة والتفاعل بين المعلم والطالب.بعبارة أخرى، "الفصل المعكوس" الذي يقدم إلى الطلاب المادة الخام، ثم يتركهم لأنفسهم يخلو من التعلم – تماما مثل تجريد الإنسان من طبيعته الإنسانية.
لكن الفصل المعكوس المصمم تصميما جيدا لا يساعد الطلاب على إتقان معرفة المحتوى وحسب، بل يمنحهم الخبرة العملية في تعلم كيفية "التعلم الذاتي".من هنا، فإن التركيز المخطط على تعلم كيفية "التعلم الذاتي" في رأيي شرط لا غنى عنه في الفصول المعكوسة.بالنسبة لي، يأتي هذا ضمن واجبات "الممارسة الموجهة" Guided Practice التي أمنحها لطلابي.وهي عبارة عن أنشطة بسيطة ذات مخاطر قليلة من شأنها أن تبني مواطن القُوى التي يحتاج إليها الطالب لتحقيق تعلم ذاتي فعال في المستقبل.ولقد اكتشفت أنه عند توافر الفرص أمام الطلاب ليعلموا أنفسهم مع التوجيه اللازم - لكن لا يلزم ذلك تعليما مباشرا بشأن المحتوى – فإنهم ينجزون المطلوب منهم وينجحون فيه، ولا يعنيني إطلاقا تصور مستوى ذكائهم أو درجة تحفيزهم.
هل بمقدور الطلاب تنظيم وإدارة التعلم الذاتي؟
ماذا عن التعلم المنظم ذاتيا self-regulated learning؟لقد اجتهدت في إقناعكم ببطلان مقولة "عدم قدرة الطلاب على التعلم بأنفسهم. لكن ماذا عن مقولة: "عدم قدرة الطلاب على تنظيم تعلمهم بأنفسهم"؟مثل المقولة الأولى، نقطة الخلاف هي "عدم القدرة".
هذه الجملة تمثل حُكما يطلقه المعلم على الطلاب – لا تملكون القدرة على تنظيم تعلمكم بأنفسكم.لكني لا أملك الجرأة الأخلاقية لإطلاق مثل هذا الحكم على الطلاب.من أكون حتى أحكم على الطلاب بعدم القدرة على القيام بأمر ما؟قد يكون هذا مقبولا في بعض المواقف (لا يمكنك التحرك أسرع من الضوء مثلا)، لكن في بيئة التعلم، فإنها أقرب إلى نكهة تحسين النسل.
لعله أقرب إلى الصواب أن نقول بأن كثيرا من الطلاب لا ينظمون تعلمهم بأنفسهم، بمعنى أنهم لا يوفون بكافة متطلبات التنظيم الذاتي للتعلم المنصوص عليها في تعريف Pintrich.ليس هذا صحيحا وحسب، بل وواضح كذلك.وقد خضنا تلك التجربة يوما من الأيام.لكن لاحظ الفارق عند تغيير "لا يقدرون" إلى "لا يقومون"، لاحظ كيف يؤثر ذلك على تفاعلنا نحن المعلمين مع الطلاب.عندما أظن أن الطالب لا يستطيع أن يتعلم بنفسه، ولا أن ينظم تعلمه بنفسه، يصبح هذا الطالب فرس رهان خاسر.لا حاجة بي إلى أن أضيع وقتي وجهدي معه، في حين أن عندي من هو أكثر منه ذكاء وتحفيزا.لكن إذا كنت أظن أن الطالب لا يتعلم ذاتيا ولا ينظم تعلمه بنفسه – مع استطاعته ذلك – حينها لا بد أن أقوم بواجبي الأخلاقي ليس ليتعلم الطالب المادة العلمية وحسب، بل ليفعل ذلك بطريقة تعزز قدراته الإنسانية المطبوعة في فطرته البشرية، ومن ثم أساعد الطالب في أن يعزز من إنسانيته أكثر وأكثر.
في رأيي يتلخص هذا التخوف في أمرين:
- الفهم الخاطئ للفصول المعكوسة باعتبارها منهجا تربويا يقوم على مبدأ الانعزال، حيث يُحمَّل الطلاب بالكتب والفيديو، ثم يُهجَرُون تماما.ليس هذا مقصود التعلم المعكوس أبدا.تنطوي فكرة الفصول المعكوسة على توظيف الموارد البشرية والإلكترونية لتعليم الطلاب كيف يتعلمون بأنفسهم.
- فكرة "عدم قدرة" الطلاب على التعلم أو تنظيم تعلمهم بأنفسهم.هذه فكرة بينة البطلان ولقد اجتهدت في تفسير بطلانها.لكن قد تجد هذه الأفكار طريقها إلى رأس الطلاب حيث أن تجربتهم الأساسية مع المنهج التربوي الذي يعزز مفهوم الاتكال لا الاستقلال. فقد تم غسل أدمغتهم على مر السنين بالمنهج التربوي المتمركز على المعلم، مما غرس في نفسوهم مفهوم العجز عندما يتعلق الأمر بالتعلم.إلا أن الحقيقة تبقى، وهي أنهم كبشر ما زالوا يتمتعون بالقدرة على التعلم وتنظيم تعلمهم بأنفسهم.الأمر تشوبه بعض الصعوبة وحسب، ويتطلب صبرا ووقتا.
ماذا إذا؟
في النهاية، هذا التخوف لا أجده إلا من طالب واحد فقط في كل فصل معكوس أدرس له.وهذا أمر أتوقعه لأن الفصول المعكوسة تختلف عن خبراتهم الدراسية السابقة.لذا فأنا أتحلى بالصبر مع هؤلاء الطلاب، وأمنحهم مزيدا من الفرص ليعبروا عن أنفسهم بارتياح، ثم أشركهم في النقاشات حول التعلم – بدأً بتدوين أهم خمسة أشياء تعلموها في حياتهم وكيف تعلموها.ثم أجد تغييرا كبيرا لكل أربعة طلاب من أصل 5، ولا يكون هذا بين الأذكياء منهم أو ذوي الهمم العالية فقط. في واقع الأمر، يثير اهتمامك تحلي الطلاب بالهمم العالية عندما تتيح لهم دورا هاما في عملية التعلم.
لذا، فأنا أشعر أن مفتاح التغلب على هذا التخوف هو التواصل مع الطلاب والتحلي بالمثابرة. وهذا هو البند الأخير المدرج على قائمة الأشياء التي تعلمتها في حياتي.
كتبه Robert Talbert لـ chronicle