نواصل في هذه التدوينة النظر في بعض المحاذير حول التعلم المعكوس والفصول المعكوسة. في التدوينة السابقة ناقشنا معنى التعلم المعكوس، وهل معناه أن يتعلم الطلاب كل شيء بأنفسهم، وهل بمقدور الطلاب أن يتعلموا بأنفسهم من الأساس؟
أما هنا فأريد أن أركز على مسألة أخرى ونقطة جيدة وردت في أحد التعليقات على التعلم المعكوس؛ حيث كنت أتحدث عن إطار معياري لتعريف التعلم المعكوس. فقد رسم واضعو هذا الإطار أربعة "معايير للممارسة" داخل الفصل المعكوس، كان من بينها "بناء ثقافة التعلم" - بمعنى التحول من التمحور حول المعلم والمحاضرات إلى مجتمع يكون الطالب فيه محور عملية التعلم، وهذا هو نص التعليق:
"فيما يتعلق ببناء "ثقافة التعلم"، بدا ذلك ممكنا أكثر عندما عملت في كلية الدراسة فيها لمدة أربع سنوات. يبدو ممكنا إلى حد ما، لكن على مستوى الدورات التطويرية، فإنني أحاول أن أعلم الطلاب المحتوى واستراتيجيات التفكير. يجب أن أعلم الطلاب التفكير النقدي قبل بناء ثقافة التعلم ... وأجد منهم مقاومة على طول الطريق. فهم يريدون مني أن ألقنهم كل شيء، ومن ثم يذاكروا بنفس الأسلوب التقليدي ليحصلوا على أعلى الدرجات."
في الحقيقة أنا مشفق عليهم كثيرا، حيث أن تجربتي الأولى مع الفصول المعكوسة تميزت بالصراع. وكذلك كانت تجربتي الثانية (نفس الفصل، في العام التالي). وحتى اليوم ما زلت أرى تراجعا لا يستهان به من قبل الطلاب في بيئة الفصل المعكوس، وعادة لنفس الأسباب.
قبل أن أتطرق إلى هذا الأمر، أحب أن أشير إلى أمرين:
1. مقاومة الطالب لفكرة معينة حول تصميم المقرر الدراسي أو عملية التعليم لا يعني أن الفكرة سيئة بذاتها. بل يعني عدم ارتياح الطلاب ومحاولتهم فهم القواعد، وهذا ينعكس أحيانا على طبيعة التناقض أو الصراع. المسألة التي تطرق إليها ذلك التعليق لا تمثل تخوفا من التعلم المعكوس بحد ذاته بقدر ما تعبر عن قلق حول تطبيقه. وبالنسبة للمتخوفين من التعلم المعكوس لأنكم مقتنعون بعدم إمكانية تطبيقه أبدا، أرجوكم تابعوا القراءة:
2. لا يمكن أن تستمر مقاومة الطلاب إلى الأبد، حتى لو كانت على نطاق واسع؛ فقد اكتشفت مقدرة الطلاب على تغيير أراءهم، ولا يرجع ذلك إلى أن طلابي أكثر ذكاء أو نضجا من أي طالب آخر. ليس للأمر علاقة بالذكاء أو النضج، إنه يتعلق بالتواصل والاتصال.
على أية حال، دعونا نتدبر هذه المسألة: الطلاب في الفصول المعكوسة يتذمرون لأنهم يريدون أن تُلقِي عليهم المحاضرة، وأن تَشرَح لهم كل شيء حتى يحصلوا على أعلى الدرجات. هنا أذكر بعض الردود على هذه المسألة. أود أن أحذر، رغم ذلك – كما كتبت في هذه التدوينة – أنه ينبغي تجنب الدخول في نقاشات عامة حول خيارات التعليم المتاحة أمامك – اجعلها من خصوصياتك وضيق دائرة النقاش كلما أمكن، وذلك باستخدام المنتديات العامة لطرح رؤية إيجابية والإشادة بنجاح الطلاب.
توافر المحاضرات المباشرة:
أولا: من المثر للاهتمام أن يشتكي الطلاب من نقص المحاضرات؛ حيث أن كثيرا من الفصول المعكوسة تعج بأطنان المحاضرات؛ فعندي أنا مثلا في فصل الرياضيات يوجد 107 محاضرة مرئية متاحة للطلاب، مع إمكانية إضافة المزيد عند الطلب. تحتوى هذه المحاضرات المرئية نفس المحتوى الذي كنت سألقيه عليهم في الفصل التقليدي – بل إنها أفضل حيث تم تحريرها وتنقيحها. وهناك محاضرات أخرى كثيرة حول هذا المقرر – ولا تقتصر على اللقاءات داخل الفصل وحسب.
لذا، إذا لم تقم بتنظيم الفصل تحديدا بطريقة أخرى، فإنه من الصحيح ببساطة أنك تقوم بتعليم الطلاب مباشرة. لم يعد التدريس المباشر في شكل محاضرات مرئية منقولة هو محور التدريس وجها لوجه داخل الفصل. ولماذا ينبغي أن يكون؟ أيهما أصعب، أن تسمع عن شيء ما أو أن تقوم بهذا الشيء؟ إذا كان القيام بشيء ما أصعب من السماع عنه، ألا يرغب الطلاب في القيام بواجباتهم بمساعدة المعلم والزملاء، بدلا من أن ينصتوا إلى المعلم أمامهم، ثم يتركهم لأجهزتهم ليقوموا بواجبهم؟ أليس من الأفضل أن تقوم بالجانب الأصعب بينما أكون على الأرجح قادرا على مساعدتك؟
لقد وجدت هذه الحجة قوية وفاعلة في دحض شكاوى الطلاب عن عدم توجيههم عمليا لأداء واجباتهم. هذه حجة باطلة للمبتدئين، ولا تمت إلى الواقع بصلة. تابع القراءة.
نجاح الطلاب:
ثانيا: يسعى الطلاب إلى إحراز أعلى الدرجات. عظيم! نريدهم أن ينجحوا. لكن نقطة الخلاف هنا هي معنى "النجاح". بالنسبة للمعلمين، نتطلع إلى نحاج الطلاب على المدى الطويل؛ فالحصول على A في فصل دراسي ما لا يعني النجاح إذا ما نسوا كل شيء تعلموه بعد الاختبار النهائي وافتقارهم إلى مهارات التعامل مع المشكلات وحلها للانتقال إلى الفصل الدراسي التالي أو التقدم على مستواهم المهني.
يمكننا أن نجعل الطلاب يفهمون هذه النقطة بتقديم تعريف معياري للنجاح – من خلال تعلم الأهداف والمقاصد التي نختارها وأنواع التقييمات التي نقوم بها.
أهداف التعلم
لقد كتبت كثرا عن أهداف التعلم. مع أن تجربة التعلم تعني أكثر من مجموع أهداف التعلم التي يكتنفها فصل دراسي ما، فمن الهام تحديد ما نسعى إلى تقييمه بعناية، ثم طرح هذه البنود بوضوح على الطلاب. إذا كنت ترغب في التأكيد أكثر على الإجراءات خلال فصل دراسي ما، عندئذ ادرج أهداف تنظيم الإجراءات في أهداف التعلم وقم بمناقشتها مع الطلاب – وناقشهم في سبب جعلها ضمن الأهداف. هذا الأسلوب يبعث رسالة إلى الطلاب، عندما يرون أن الاختبار القادم يغطي عددا من الأهداف التي تحتل مرتبة عليا ضمن تصنيف بلوم للأهداف التعليمية أكثر من مجرد تحصيل الدرجات. إذا لم يرى الطلاب أية أهداف، فسوف يفكرون تلقائيا في الأهداف الافتراضية للاختبارات، وهذا انزواء وانحسار في عملية حصد الدرجات بنسبة 100٪ تماما مثل مسألة الواجبات المنزلية وإلقاء المحاضرات. وهنا يقع على عاتق المعلم مهمة أساسية، ألا وهي إعداد جدول أعماله.
التقييم العملي
بعد وضع أهداف التعلم هذه، يقع على عاتقنا إجراء تقييمات تقيس بحق ما نسعى إلى رؤيته على أرض الواقع. إذا كنت تسعى إلى تقييم استظهار المبادئ الأساسية لمادة الميكانيكا في دورة الرياضيات، فإن هذه الدورة تنحصر في هذا الموضوع – بغض النظر عن نوايا المعلم. وفيما يتعلق بـ "التقييم"، فإنني أنصح الجميع أن يفكروا في استحداث طرق أخرى لتقييم الطلاب إلى جانب ما يقومون به من اختبارات دورية – أساليب أخرى مثل طرح الأسئلة والإجابة عليها عبر الأجهزة النقالة clicker questions، وواجبات الممارسة الموجهة، والمشاريع التطبيقية، وغيرها. إذا انحصرت أعمال التقييم التي نقوم بها في الاختبارات فقط، سوف يركز الطلاب عليها دون غيرها. هنا لا بد من التوازن إذا كنا نرغب في توظيف المزيد من أساليب التقييم.
مقاومة التغيير
ثالثا: ثمة خيط مثير للاهتمام في مثل هذا النوع من ردود أفعال الطلاب، والذي يجمع بين الخلفية التي ينحدر منها الطلاب في تعليمهم لمادة الرياضيات والغاية التي يظنون أنهم يقصدونها. لقد قلت آنفا أن انعدام المحاضرات ليس التخوف الحقيقي عند الطلاب – ببساطة لأنها لا أساس لها على أرض الواقع؛ بل في رأيي أن الشك هو التخوف الحقيقي؛ لقد استقر الطلاب على ما هم عليه، لأنهم تأقلموا ووطنوا أنفسهم على نموذج المحاضرات. تغيير هذا النموذج يربك توقعاتهم، ويدفعهم إلى كثير من الشك - وقد يبرز الصراع كآلية للمواكبة والتأقلم.
ثمة بعض الأشياء التي يمكن أن يطرحها المعلم الذي يجد مثل هذا النوع من الشك عند الطلاب.
ماذا إذا؟
إذا كان الطالب يدرس الرياضيات العلاجية، يمكن أن نسأله ببساطة: حسنا، لقد اعتدت على أن يُريَك المعلم ما يتعين عليك القيام به، ثم تقلده أنت. كيف تنجح هذه الطريقة؟ هذا السؤال ليس معضلة (أو على الأقل ينبغي ألا يكون) إنه سؤال أمين حول فاعلية طريقة التدريس التي يتشبث بها الطالب.
إذا كان الطالب ملتحقا بدورة دراسية أخرى، يمكن أن تسأله: دعنا نذهب قليلا أبعد من هذا الفصل ونفكر فيما تود أن تقوم به بعد خمس أو عشر سنوات من الآن. كيف يصبح الشخص الذي يؤدي نفس الأشياء ناجحا؟ لنقل مثلا أن الطالب يتخصص في الهندسة، ماذا يفعل المهندس الناجح، وكيف يصل إلى هذه الطريقة؟ ماذا عن الطبيب؟ بل ماذا عن ربة المنزل؟ أو الكهربائي؟ إذا لم تكن لدى الطالب فكرة واضحة عن الإجابة عن هذا السؤال، فمن المفيد أن يقوم ببعض البحث على الويب أو استشارة أستاذ آخر ليصل إلى الإجابة. عند توافر الفكرة، لا بد أن يكون واضحا أنه ليس كافيا إطلاقا أن يجد الطالب من يعلمه الإجابة عند دخول الاختبار. ولأننا نريد أن ينجح الطلاب، فإن إدارة الفصل بهذه الطريقة لا تكفي.
فإن هذا لا يُزيل بالضرورة الشك أو القلق عند الطلاب، لكنها على الأقل تضع الأمور في نصابها. إننا نريد أن ينجح الطلاب. هل نردد هذه الحقيقة بالقدر الكافي على مسامع الطلاب. وهذا يعني تجهيز الطلاب للحياة للوفاء بمتطلباتها منهم، وهي أمور متغيرة دائما. لهذا السبب تم تصميم الفصل بهذه الطريقة.
إني أريد تحفيز أي شخص يمر بهذا الموقف على ألا ييأس أو ينكص على عقبيه. في الواقع، إذا كان طلابك يتصرفون بهذه الطريقة، فهم يقفون حيث تريد بالضبط؛ حيث يتوافر لديهم الاستعداد على أن يتعلموا شيئا جديدا عن "التعلم"، وعن "قيمة التعلم" في مقابل "قيمة الدرجات" . عندها يتلاشى الصراع وينزوي، و يا لها من لحظة رائعة يمر بها كل معلم!
هل مررت بهذه اللحظة الرائعة؟ هل غرست قيمة التعلم في نفوس طلابك؟
هل أهلتهم بما يكفي من أدوات لمجابهة متطلبات الحياة المتغيرة؟
مترجم عن مقال كتبه Robert Talbert لـ chronicle